السؤال: أستاذنا الكريم جزاك الله خيراً على أجوبتك الشافية. عندي سؤال يختلج في صدري منذ فترة، فهناك أطروحة تقول بأنّ الإنسان إذا أخذ بالدين واستفاد من جميع إيجابيّاته، وأضاف إليها التقدّم المادي والمعنوي، وقام بتطويرٍ مستمرّ لهذا الدمج الحضاري بين المادي والمعنوي وبين العلم والدين، ومعالجة مستمرّة للثغرات والمشاكل التي تنجم عن ممارسة هذا النظام على أرض الواقع. أقول: في حال تحقّق مثل هذا اﻻفتراض ونجاحه واقعيّاً، هل هناك حاجة لأطروحة المهدويّة التي نادى بها الإسلام كخاتمة منطقيّة لنهاية التاريخ؟
الجواب: هذا السؤال يتبع جوابُه طريقةَ فهمنا لقضيّة المهدويّة:
1 ـ فإذا فُهمت في سياق الإصلاح الإنساني والأخلاقي والاجتماعي وإقامة العدل والحقّ ورفع الظلم بكلّ أنواعه عن البشر، وتطبيق تعاليم الدين الحنيف والقيم الأخلاقيّة والروحيّة السامية والنبيلة، وتعالي وتكامل نفوس الناس على هذه الصعد، فإنّ سؤالكم سوف يستبطن الجواب عن نفسه، فلن تكون هناك ضرورة حينئذٍ لقضيّة المهدويّة بهذا المعنى.
إلا أنّ الكلام يقع في تحقّق هذه الظاهرة بمستواها المهدوي في ظلّ عدم وجود الإمام المهدي، حيث قد يقول لك الطرف الآخر بأنّ تحقّق هذه الحال مجرّد فرض لا واقعيّة له في ظلّ عدم وجود الإنسان الكامل المعصوم، وعليك أن تثبت إمكان ذلك وقوعاً لا مجرّد افتراضات.
2 ـ وأمّا إذا فُهمت في سياق أمر أبعد بكثير ممّا تقدّم، وأنّ المهدويّة نشأةٌ أخرى للإنسان تمثل إحدى مراحل العبور من الدنيا إلى الآخرة (من الشهادة إلى الغيب) أو تمثّل مرحلة ًبرزخيّة:
أ ـ كما فهم جماعةٌ ذلك من بعض كلمات العلامة الطباطبائي (انظر: تفسير الميزان 2: 108 ـ 109)، وهناك كلام كثير هنا وهناك في موقف العلامة الطباطبائي من فكرة الإمام المهدي، حتى أنّ بعضهم يتهمه رحمه الله بإنكار المهدويّة الشيعيّة، وأنّه لهذا لا نجد للمهدي ذكراً عنده كما ينبغي، وهناك من دافع عنه في ذلك، والكلام طويل والقضيّة بحاجة لدراسة واسعة في كلامه وكتبه رضوان الله عليه، وتُنسب له رسالة مهمّة في نقد كلام المنكرين للمهدويّة، لكنّ فهمه الفلسفي والعرفاني للمهدويّة ربما سبّب لبعضهم التباساً.
والكلام عينه جرى أيضاً في المعروف من مذهب الشيخ الأحسائي رحمه الله، في غير واحدٍ من كتبه، حول فرار الإمام المهدي من الدنيا الكثيفة إلى النشأة اللطيفة الحاوية لنحو تجرّدٍ، والتي تُعدّ عنده ألطف من الدنيا بسبعين مرّة، والتي وصلها الإمام سريعاً بينما يسير الخلق إليها ببطء، فظهوره هو وصول الخلق إليه في ذلك العالم لا ظهوره في الخلق في هذا العالم الدنيوي الكثيف، ووصولهم هو قيامه وظهوره.
ب ـ وكما يلوح ذلك ـ أي نظريّة البرزخيّة المهدويّة ـ من كلمات بعضهم، حيث يرون أيضاً أنّ جملة من الآيات التي حسبها المسلمون من نصوص القيامة ويوم الآخرة هي نصوص الطور المهدوي..
إذا فُهمت المهدويّة بهذا المعنى وأنّه يكون للإمام المهدي دورٌ تكوينيّ واقعي فيها بحكم هيمنته على العالم تكويناً، وأنّها مسار تكويني للخلق، لا ظهور مصلحٍ اجتماعي، فإنّ الصورة ستختلف تماماً، ومن ثم لن يكون بالإمكان، حتى لو أصلحنا البشر بالشكل المعتاد، تحقيقُ هذه النشأة المرتبطة ـ وفق هذا التفسير ـ بحضور الإنسان الكامل الجامع للصفات والأسماء، ومسيرة الخلق نحوه، فأنت هنا لا تتكلّم عن شؤون إدارية وتربويّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، بل تتكلّم عن ولادة تكوينيّة أخرى للإنسان يتصل فيها الغيب بالشهادة اتصالاً جديداً، ويُعاد إنتاج العالم كلّه إنتاجاً تكوينيّاً مختلفاً، فإذا صحّ هذا الفهم للمهدويّة، فسوف تظلّ المهدويّة ضرورةً، ولن يُغني عنها الإصلاح الاجتماعي ونحوه.
وأمّا أنّ الصحيح ما هو، فما أفهمه من فكرة المهدويّة في تراث المسلمين هو المعنى الأوّل، وأراه الأوفق بالنصوص، وأمّا هل يتمكّن البشر من تحقيق العدالة الأتمّ والتكامل الإنساني الأكمل على مختلف الصعد دون وجود الإمام، فهذا يحتاج لإثبات، وإلا فسيظلّ مجرّد افتراض، والافتراضاتُ لا تثبت نفسها.
وهذا الكلام كلّه إنّما هو في منطق الضرورات، لكن لنفرض أنّ المهدويّة لم نتمكّن من إثبات كونها ضرورة، إلا أنّ هذا لا يُثبت بطلانها، وأنّها لن تقع، فنفي الضرورة عن وجود شيء بهذا المعنى، لا ينفي تحقّقه الخارجي ما دام خياراً من الخيارات.