السؤال: يشكل البعض على هذا الترتيب المخصوص للأئمة الاثني عشر، فهل حصل مثل هذا في التاريخ؟ ثم كيف يمكننا عرض عقيدة توارث الأئمة للإمامة بطريقة عقلانيّة؟ (عمران).
الجواب: أولاً: هذا الترتيب الخاصّ للأئمّة هو ـ من وجهة نظر المذهب الإمامي ـ منصوصٌ عليه، فإذا أريد النقاش مع هذا الترتيب فينبغي أن يكون حول الأدلّة والمعطيات التي دفعت الإماميّة لهذا الاعتقاد. وهذا يشبه تماماً أيّ اعتقاد آخر في أيّ مذهب شيعي آخر أيضاً كالإسماعيليّة، بل في أيّ مذهب ولو سنّي، فهذا الترتيب الذي جاء للخلفاء الأربعة الأوائل أو ترتيب الأفضليّة بينهم ـ وهو موضوع شديد الخلاف حتى في الداخل السنّي، وإن حاول بعض أهل السنّة أن يطمر هذا الخلاف الداخلي فيه ويرسل الأمور إرسال المسلّمات ـ كلّه يخضع للمنطق نفسه، فما هو الدليل على أفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؟ وكذلك ما هو الدليل على أيّ ترتيب آخر من حيث الفضل والمنزلة بينهم؟ وهكذا.
ثانياً: لم أفهم ما الربط بين فكرة الأئمّة الاثني عشر وبين حصول ذلك في التاريخ؟! لعلّكم تقصدون أنّه إذا حصل ذلك في التاريخ يكون دليلاً أو يشكّل مهدّئاً نفسيّاً، مع أنّه ربما يقول بعضهم بأنّ الإشكال يسري أيضاً على ذاك الذي حصل في التاريخ. علماً أنّ الثقافة القرآنية تحدّثت عن توارث النبوّة بمعنى كونها أحياناً في بيت واحد، وأنّه تمّ الاصطفاء الإلهي لأسر وعوائل، وليس فقط لأشخاص، فكما لا نعرف لماذا اختير محمّد بن عبد الله من بين كلّ الناس قبل ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام، كذلك لا نعرف لماذا اختيرت أسرته أو بعض أسرته، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 31 ـ 32)، فكما لم يمنعنا ذلك عن الاعتقاد بنبوّته كذلك الحال في أسرته، شرط قيام الدليل على نبوّته وعلى اصطفاء أسرته. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33 ـ 34). وهكذا نجد المصطفى من الأنبياء والأخيار يكون أبوه أو عمّه أو ولده أو أخوه مثله، وهذا كثير، قال سبحانه: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ… وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ… إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ…) (آل عمران: 38 ـ 46). وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: 58)، فلماذا كانت الإشارة بمفهوم الذريّة في هذه الآيات؟ وهكذا كان يعقوب نبيّاً وولده يوسف، وكان إبراهيم نبيّاً وولده إسحاق واسماعيل ويعقوب (على الخلاف في أنّ يعقوب ابن إبراهيم أم ابن إسحاق)، ومن نسل إسماعيل كان محمّد، وهكذا كان موسى نبيّاً وأخوه هارون، وكذلك أبو زوجته شعيب، وكان داوود نبيّاً وكذلك ابنه سليمان، وقال تعالى عن يوسف: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). فنماذج الأسر والأقارب الذين حظوا بنبوّة واصطفاء ليس قليلاً فيمن مضى.
ثالثاً: لم أفهم أيّ معنى للعقلنة هو الذي قصدتموه في السؤال؟ لأنّها تحتمل عدّة معانٍ:
أ ـ فقد تقصدون من التعقيل أن يكون ذلك أمراً معقولاً، مقابل استحالته أو بُعده عن الواقع، بحيث لا يرتضيه العقل ولا يقبل به المنطق، ومن الواضح أنّ العقل غير قادر على نفي هذا الترتيب، واعتباره مستحيلاً أو غريباً، لاسيما بعد النماذج التي ذكرناها من قبل، وهي ـ بالمناسبة ـ موجودة أيضاً في النصوص الدينية عند غير المسلمين كالمسيحيين واليهود. فالتعقيل بمعنى الإمكان وعدم إباء العقل حاصلٌ، ومن يدّعي الاستحالة فليذكر منطلقه في ذلك.
ب ـ وقد تقصدون من التعقيل الجواب عن سؤال (لماذا)، أي لماذا كانت الإمامة بهذه الطريقة؟ وكيف لنا أن نفهم تفسير ذلك ومبرّراته ودوافعه عند الله تعالى؟ وهنا حاول الكثير من العلماء والخطباء الحديث عن هذا، ولكنّ رأيي الشخصي أنّ ما اطّلعت عليه من مقولاتهم ليس سوى ضروب من التخمين والظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً، فمن الصعب لنا التكهّن بالمبرّرات بهذه البساطة، لذلك أعلن لكم بصراحة بأنّني عاجزٌ عن تقديم جوابٍ تفصيلي لهذه الطريقة الخاصّة ولهذه الأسماء الخاصّة للإمامة. وكلّ ما يمكن الجواب عنه ينطلق من ذهنية عقليّة، أي إنّ الله حكيم، ومن ثم فمقتضى حكمته أنّ ما يفعله لابدّ له من مبرّر وغاية حسنة، ولهذا فإنّني أفترض الغاية الحسنة والمبرّر المعقول في هذا الترتيب، ولكن من الصعب عليّ أن أكتشفه بالتفصيل بهذه البساطة ما لم يرد نصّ مؤكّد. وليس في حدود علمي أنّ هناك نصّاً معقلناً بهذا المعنى الذي تريدون. ولعلّ عند غيري جواباً لم يبلغه عقلي المحدود. والخلاصة: إنّ التعقيل الكلّي ممكن، أمّا التعقيل الجزئي التفصيلي فصعب.
ج ـ وقد تقصدون من التعقيل أنّ هذا الترتيب قَبَلي عشائري، ومن ثمّ فالعقل يرى فيه موجباً للتشكيك في صحّة إمامتهم، وأنّه من المحتمل أنّ هذا الترتيب تاريخيٌّ عشائري، ألقي عليه ثوب القداسة والنسبة إلى الله سبحانه. وهنا يمكنني القول بأنّ هذا الكلام صحيح، بمعنى أنّ هذا الاحتمال ينبغي أخذه بعين الاعتبار عندما ندرس قضيّة الإمامة، وينبغي أن يكون حاضراً عند معالجة أدلّة التنصيص على هؤلاء الأئمة الاثني عشر عليهم الصلاة والسلام، ومن ثمّ فإذا كانت أدلّة إمامتهم الكاشفة عن التنصيص الإلهي قويّة، فسوف يتضاءل احتمال المنطلق البشري هذا، وكلّما لم تكن قويّة ارتفع مثل هذا الاحتمال، فمرجع مطالبتكم بالتعقيل هنا هو أنّكم وضعتم افتراضاً تفسيرياً لظاهرة الإمامة الشيعية يغاير منطلقها الديني، وهذا جيّد في مراحل البحث الأولى، ومن ثم يجب على الباحث أن يقوم بتحليل أدلّة الإمامة، مفترضاً عدّة فرضيات تشكّل هذه واحدةً منها، وكلّما ساقته الأدلّة إلى مكان معيّن بدأت إحدى الفرضيات بالتراجع، لتقوى فرضيّةٌ أخرى، كما هو منطق التحليل العقلاني للأمور، فبهذا المقدار أنا أقبل منكم جعل هذا فرضيّة في بداية البحث، لا في نهايته، ما لم تترجّح هذه الفرضية عند الباحث نتيجة ضعف أدلّة التنصيص الإلهي من وجهة نظره.