السؤال: بعضنا يخلط في تعامله مع المخالف بين أولويّة الرفق بالإخوان أم الصلابة في ذات الله، فلا يعيش حالة التوازن، وكأنّ حفظ الدين متوقّف على إحدى الوسيلتين، بل كأنّ وجود إحداهما يعني إلغاء الأخرى.. ما نصيحتك للدعاة وحماة العقيدة؟ (خليفة).
الجواب: لا أجد تنافياً بين الصلابة في ذات الله وبين الرفق بالإخوان، فهل الذي يمارس الأسلوب الليّن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون صلباً في ذات الله؟! إنّ المطلوب اليوم أمور كثيرة:
منها: أن يجلس الدعاة والمدافعون عن العقيدة ليتدارسوا أيّ السبل هو الأفضل عمليّاً في التأثير وأيها الذي تقلّ قدرته في التأثير والفعل، آخذين بعين الاعتبار المدى الزمنيّ البعيد لا الأفق الزمني الذي لا يتعدّى اليوم أو اليومين، وآخذين بعين الاعتبار أيضاً الأجيال الصاعدة التي سيكون لها المستقبل دون الحاضر، وأن ينفتحوا خارج إطار دائرة علاقاتهم المحدودة ليروا كيف هي تأثيرات أسلوبهم في الدعوة إلى الدين، لا أن يجلسوا في دائرتهم الخاصّة ثم يتطلّعوا للأمور من بعيد. هل هذا الأسلوب العنيف في التخاصم والجدال يترك تأثيراً إيجابيّاً على الشباب؟ هل هذا الأسلوب الهجومي في الدعوة إلى الدين أو في الدفاع عن العقيدة يعطي انطباعاً إيجابيّاً عن الإسلام في النفوس بحيث يدفعها لتقبل عليه وعلى الالتزام بتعاليمه أم لا؟ هل حقّاً هذه الأساليب تترك مفاعيل إيجابيّة على الصعيد المجتمعيّ العام وليس فقط على صعيد مجتمع المتديّنين الذي لا يشكّل كلّ المجتمع الإسلامي أو المذهبي؟ وإذا تمّت دراسة هذه الأمور دراسة ميدانية (وأنا أقترح إجراء إحصاءات أو استبيانات في أوساط شبابيّة مختلفة ومن بلدان مختلفة) هناك ينبغي أن نرسم الأسلوب الأنجع والأفعل في الدفاع عن الدين في مرحلتنا الراهنة، وهناك سنعرف أنّ شعوبنا قد تعبت من لغة القهر والاستبداد والنفي والإقصاء، وأنّها إذا لم تصرخ بوجه بعض الدعاة في لغتهم هذه فلا يعني ذلك رضاها بها بقدر ما يعني وضعاً اجتماعيّاً أو احتشاداً طائفيّاً يفرض عليها عدم الثورة عليهم، وعلينا أن نأخذ الإطار النفسي العام الذي تعيشه شعوبنا، لنعرف أنّ الأسلوب الأفضل لها هو الأسلوب الذي يحترمها ويقدّر مشاعرها وهمومها وتساؤلاتها وتفكيرها في الوقت نفسه الذي لا يتخلّى عن الحقّ لأجل الآخرين، ولا يقهرها أو يتعالى عليها أو يقمعها كلُّ شيءٍ بحسبه.
ومنها: أن يميّز دعاة العقيدة بين هتك الدين ومحاربته وبين الاجتهاد فيه، وأن يقرؤوا تاريخ العقائد وعلم الكلام جيّداً ليعرفوا أنّ تنوّع الاجتهادات العقائدية كان هو الأصل عبر التاريخ بين المذاهب وداخل كلّ مذهب، ومن ثم فلا يصحّ أن أتصوّر أو اُصوِّر للآخرين أنّ الرأي الآخر والاجتهاد الكلامي الآخر هو انحراف وضلال وفساد عقائدي ونقص في العقيدة وغير ذلك من التعابير التي باتت رائجة اليوم، فهذه المقولات لا معنى لها في ظلّ حرمة التقليد في العقائد وفتح باب الاجتهاد، ووجود الحقّ لكلّ من له عقل في أن يجتهد في الدين ومعتقداته، وإذا لم يعجبنا اجتهادٌ من هذه الاجتهادات فلنا كامل الحقّ في الردّ عليه ومناقشته بالأسلوب العلمي الرصين والمتوازن؛ لأنّ الأساليب الأخرى ستبدينا عاجزين وضعافاً، فكما أنّ الغيبة جهد العاجز كذلك الصراخ والضجيج جهد الفاشل.
ومنها: أن يعود الكثير من حماة العقيدة ـ وغيرهم ـ إلى أنفسهم في خلوةٍ صريحة وشفافة وفي محاسبة عميقة للذات والأنا، فهل أدافع عن العقيدة لأجل الحقّ واقعاً أم أنّني أدافع عنها لأجل أن نفوذ الآخر لو تركته سوف يطيح بنفوذي الاجتماعي أو يقلّل منه؟ علينا جميعاً من مختلف الأطراف أن ندخل هذا الحوار مع الذات، ونكتشف الدوافع الحقيقيّة لردود أفعالنا في أفق اللاوعي، هل حقّاً هي الله والقيم الرفيعة أم الخوف من تراجع نفوذنا الفردي والفئوي؟ هل حقّاً هي الله والمُثُل العليا أم الخوف من أن نبدو أمام الجيل الشاب وكأنّنا كنّا فاشلين وقد جاء من أخذ الساحة منّا؟ هل نغلّف فشلنا بعناوين دينية أو غيرها ثم نصدّق هذا التغليف المفتعل أم أنّ القضية خالصة لوجهه الكريم تبارك وتعالى؟ من الضروري لكلّ الفرقاء التفكير باستمرار بهذا الأمر ما داموا ينطلقون من قصد القربة لله تعالى، ومن دواعٍ دينية وأخلاقيّة صادقة، فهذه المحاسبة المتواصلة قد تكون كفيلة بتصحيح المسارات، وبالدفع بنا جميعاً نحو الاعتراف بالخطأ وتصويب المناهج والآليات، ففي كثير من الأحيان تسوّل الأنا الفردية والجماعيّة لصاحبها فتوهمه أنّه متفانٍ في الخير والحقّ وليس قصده إلا خدمة الله ودينه ورسوله وأهل البيت والصحابة، أو أنّه ليس قصده إلا خدمة الوعي والدين والعقل والبعد الحضاري من الإسلام، فيما تكون الدوافع الحقيقية الكامنة في الأعماق هي مصالحه الشخصيّة والفئوية، أو يكون الحسد والحقد والضغينة و.. فكيف ينجرّ الناس نحو فلان أو فلان، أو نحو هذه الجهة أو تلك ويتركوني أو يتركوا فئتي؟! إنّ هذا غير مقبول، وعليّ أن أعلن الحرب حتى النَّفَس الأخير لأبقى وليبقى وجودي وكياني، ليس مقبولاً أن يأتي شخص من خلف الحدود ليأخذ مكانتي أو بعضها من النفوس وتنشدّ إليه الأنظار، بل يجب أن أشوّه صورته وأسحقه سحقاً لكي أحول ولو بالقوّة بينهم وبينه، فإنّني لو احترمته وأعطيته حقّه وتناقشت معه بكلّ احترام فهذا لن يفرض تراجعه بالضرورة، بل سيكون ذلك اعترافاً منّي به وبكينونته ووجوده، وهو اعتراف سوف يستفيد هو منه ليمارس نفوذه حقيقةً. بل الأسوأ من هذا أنّ بعض المتخاصمين في هذه الأمور لو دخلت إلى نفسه فهو يقرّ بفضل الآخر عليه، وتفلت من تحت لسانه إقرارات من هذا النوع، لهذا فهو خائف من الآخر، ولأنّه خائف هو منفعل وغاضب يصرخ في كلّ اتجاه، ولا يقرّ للآخر بحسنة ولا يسمح بأن تُذكر له منقبة، ويكتم كلّ حسنة لغيره وسيئة له، فيما يبوح بكلّ سيّئة لغيره وحسنة له. عافانا الله وإيّاكم من مرض القلوب، وشفانا بذكره، وطهّرنا من الحسد والغلّ، ومنّ علينا بطهارة النفوس وصفاء القلوب، إنّه قريب مجيب.