السؤال: ذكرت في كتابك (نظريّة السنّة)، نقلاً عن ابن قولويه أنّه يقول: (ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم [أهل البيت] إذ كان فيما روينا عنهم من حديثهم ـ صلوات الله عليهم ـ كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذّاذ من الرجال، يؤثر ذلك عنهم من المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم) (كامل الزيارات: 37). والسؤال: ما هو المانع من الأخذ عن غير أهل البيت؟ وإذا كان هناك مانع فلماذا اُمِرَ الناس بأن ينفروا ليتفقّهوا في الدين؟ ولماذا أمروا بالكتابة عن رسول الله؟ ممّا اضطر بعض الباحثين للبحث في كتب السنّة عن بعض الموضوعات كفضائل المدينة المنوّرة وغيرها من الموضوعات.
الجواب: أ ـ الظاهر أنّ مراد ابن قولويه من أهل البيت ما يعمّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فليس قصده بأنّنا نأخذ من حديث أهل البيت ولا نهتمّ لحديث النبيّ، بل قد روى ابن قولويه في هذا الكتاب نفسه عن رسول الله من غير طريق أئمّة أهل البيت (انظر ـ على سبيل المثال ـ الصفحات: 44، 46 وغيرها). بل إنّ ما يؤخذ من أهل البيت النبوي إنّما هو لما عندهم من علم رسول الله، فهم تبعٌ له صلوات الله عليه وعلى آله.
ب ـ إنّ الأخذ من غير الأئمّة من أهل البيت في قضايا الدين له معنيان:
المعنى الأوّل: اتّباع غيرهم دون دليل، اي الاعتقاد بحجيّة قوله في نفسه، ولو لم يقل في كلامه روايةً عن النبي محمد، وهذا المعنى لا تؤمن به الشيعة ولا يؤمن به كثير من السنّة أيضاً، فإنّ غير رسول الله ـ لو تركنا مؤقتاً مسألة الإمامة ـ لا حجيّة لقوله في حدّ نفسه. نعم ذهب بعض علماء أصول الفقه السنّي إلى حجيّة قول الصحابي، وذهب المسلمون إلى حجيّة سيرة الصحابة وإجماعهم؛ لما يكشفه هذا الإجماع عن موقف الرسالة، أو عملاً بحديث لا تجتمع أمّتي على خطأ أو ضلالة، عند من يؤمن بهذا الحديث. وقد بحثت شخصيّاً في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي) مسألة حجيّة قول الصحابي وخلصت هناك إلى أنّ الأدلّة التي ذُكرت لا تنهض لإثبات حجيّة قوله، وفاقاً لما ذهب إلى الإمام الغزالي (505هـ)، حيث عرف عنه النقد الشديد لمقولة حجيّة قول الصحابي (وحجيّة قوله غير حجيّة رواياته، وغير مسألة عدالة الصحابة، فلاحظ وانتبه) في كتبه كالمستصفى.
المعنى الثاني: أن يتمّ الرجوع إلى غير أهل البيت لكي:
أولاً: نأخذ منهم الفكر ونقرأ علومهم وتجربتهم ونستفيد منها بما نراه صالحاً ونعرضه على الكتاب والسنّة والعقل، تماماً كما يراجع الفقهاء والمفسّرون والمحدّثون والفلاسفة والمتكلّمون جهود أسلافهم ليستفيدوا من تجربتهم، لا لكي تكون هذه الجهود في نفسها مصدراً موازياً لحجيّة القرآن والسنّة والعقل وفي عرضها.
ثانياً: نأخذ منهم ما يروونه عن النبي وأهل البيت بطرقهم الخاصّة.
وفي هاتين الحالتين للمعنى الثاني، لا يوجد مانع من الرجوع إلى كتب سائر المذاهب غير المذهب الذي تعتقد أنت بصحّته، لكي تستفيد من بحوثهم العلميّة وتناقشها، وتأخذ بما تقتنع به من أفكار، وتذر ما ترفضه منها، بل هذا لا يختصّ بالعلوم الدينية وبالعلاقات بين المسلمين، بل يشمل سائر العلوم التي يُنتجها غير المسلمين أيضاً، فهذه قضية معرفيّة لا علاقة لها بالدين والانتماء الديني، وإنما قيمتها بالدليل الذي يكون معها، فإذا قال الشافعي مسألةً واستدلّ عليها بدليل، واقتنع الإمامي أو الإباضي بصحّة هذا الدليل، لزمه الأخذ به؛ لا لأنّ الشافعي قاله، بل لأنّ الدليل الحجّة والمستند الصحيح كان معه، وهكذا في سائر المذاهب، وإذا لم يكن الدليل الذي قدّمه الشافعي صحيحاً تُرك قولُه، لا لأنّ الشافعي قاله، بل لأنّ دليله غير صحيح.
كما لا يوجد مانع من الرجوع إلى كتب الحديث من غير المذهب الذي تؤمن أنت به، شرط أن تحتوي الروايات على شروط الصحّة والسلامة التي تعتقد أنت بمعياريّتها في الاحتجاج والتعبّد، تماماً كما هي الحال في الرجوع إلى مصادر الحديث المذهبي، فإنّه لابدّ من تحقّق شروط الصحّة والسلامة في الأحاديث المنقولة لكي يُتعبّد بها ويحتجّ بها، فهذا كلّه من حيث المبدأ لا مشكلة فيه، وقد سبق لي أن ناقشت بعض الروايات القليلة التي احتجّ بها بعض الإماميّة للمنع عن الأخذ بحديث غيرهم.
بل إنّني أعتقد ـ وقلت ذلك مراراً ـ بأنّه يشكل الاكتفاء بمصادر حديث مذهب بعينه، وهجر حديث سائر المذاهب، قبل الوصول إلى قناعة علميّة ـ وليس خطابات وتهجّمات طائفيّة ـ بعدم حجيّة كتب الحديث الأخرى عند سائر المذاهب، وفقاً لمعايير علم الحديث والنقد الحديثي والتاريخي، وأجد أنّ الاجتهاد القائم على مراجعة مصادر مذهب واحد بعينه وترك مصادر سائر علماء المسلمين ـ إلا ما ندر أو إلا لأجل الاحتجاج عليهم ـ أجد ذلك خلاف الانصاف العلمي وخلاف الموضوعيّة التي نتغنّى بها كلّنا، وهجراً لما يحتمل أنّه من السنّة الشريفة، فلابدّ من نظرة شموليّة قدر المستطاع للنصوص النبويّة في مصادر المسلمين كافّة، ما لم يُثبت الإنسان ببرهان علمي حديثي أو تاريخي أنّ هذا المصدر المعيّن مثلاً والذي كتبه بعض علماء ذلك المذهب لا يمكن الاحتجاج به؛ لوجود مشكلة توثيقية فيه، كالقول بأنّه لا يُعلم صحّة نسبته إلى مؤلّفه أو أنّ الكاتب له غير موثوق به نتيجة معطيات معيّنة أو نحو ذلك من القضايا التي يعرفها الباحثون في علم الحديث وعلم التاريخ، شرط أن يتخلّوا عن (الكليشات) الطائفيّة والنفسيّة في تقويم الآخرين. وقد حاولت شخصيّاً في بحوثي أن أرجع لمختلف مصادر المسلمين بما تسنّى لي وتوفّر تبعاً لنوعية الموضوع ومساهمة هذا المذهب أو ذاك فيه، ورغم أنّ هذا الأمر شاقٌّ جدّاً ومضنٍ للغاية، إلا أنّ تطوير نظم التربية والتعليم في المعاهد الدينية من شأنه تذليل هذه العقبات بصورة جيّدة، وتسهيل الأمر على الأجيال القادمة من الكتّاب أو الباحثين.