السؤال: يفتي الفقهاء بأنّه لا يجوز للمسيحي واليهودي (أهل الذمّة) أن يرفعوا بناء بيوتهم أعلى من بيوت المسلمين، وهذا معناه في عصرنا أنّه لا يجوز لهم أن يسكنوا في الطوابق التي فوق بيوت المسلمين في الأبنية ذات الطوابق. أيّ مواطنة هذه.؟ وأيّ رحمة وإنسانيّة في التعامل مع الآخرين المسالمين المفروض أنّهم من أهل الذمّة الذين أمرنا الله ببرّهم والقسط معهم؟! (سمير حمدان، لبنان).
الجواب: هذا الحكم الذي ذكرتموه مشهورٌ بين الفقهاء، والمرجع فيه أحد أمور أساسيّة: الأوّل: إنّ البيوت المرتفعة قديماً تصبح مشرفةً على الدور المنخفضة، وهذا ما يكشف دار المسلم وبيتَه لغير المسلم، فأريد حماية عورات المسلمين وستر نسائهم بهذه الطريقة. والثاني: هو الحديث المشهور: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)، على أساس أنّه في كلّ موقع يكون هناك علوّ لغير المسلم على المسلم، فإنّ هذا الحديث يرفضه، وقد اعتُمد هذا الحديث عند الفقهاء للحكم بالكثير من الأحكام المرتبطة بعلاقة المسلم بغير المسلم. والثالث: قوله تعالى: (…حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29).
إلا أنّ هذه المستندات تعرّضت للمناقشة؛ فقضية الإشراف على الدور المنخفضة لا تختصّ بالكافر، بل المسلم الأجنبي يشمله هذا الحكم، ومن ثمّ فليس حكماً في قضايا الأقليّات الدينية، بل هو حكم في مسائل حقوق الجار، ويمكن تخريج الحال فيه بطرق كثيرة غير المنع من تعلية البناء. وأمّا الحديث الشريف، فبصرف النظر عن المناقشات السندية التي أوردت عليه، فقد تعرّض لمناقشات كثيرة استوفيتُها شخصياً في أبحاثي المتواضعة حول الجهاد في الإسلام، ومن الملاحظات التي سجّلها بعض الفقهاء المحقّقين المتأخرين أنّ هذا الحديث يتحدّث عن علوّ الإسلام لا عن علوّ المسلم، وقد التبس الأمر على الفقهاء السابقين في هذه المسألة، ومجرد علوّ شخص غير مسلم على شخص مسلم لا يعني علوّ غير الإسلام على الإسلام، بل يصدق هذا عندما يكون علوّ الكافرين موجباً لضعف الإسلام نفسه، ومن هنا تراجع الكثير من الفقهاء المتأخّرين عن توسعة دائرة الاستناد إلى قاعدة العلوّ بهذا المعنى، وأجاز الكثير من الفقهاء أن يصبح المسلم أجيراً عند غير المسلم في عقد إجارة، أو عاملاً في عقد مضاربة أو مزارعة أو مساقاة، ولم يرَوا في ذلك منافاةً للحديث الشريف. وأمّا المستند الثالث فقد كشف الفقهاء والمفسّرون المتأخّرون أنّ الصغار هنا هو حالة نوعيّة، بمعنى أنّ نفس خضوعه للدولة الإسلاميّة سيجعل دفعه الجزية في حال صغار، لا أنّ الصغار شيءٌ إضافي، علماً أنّه لا إطلاق في الآية يشمل صغارهم في كلّ شيء، بل يكفي تحقّق مسمّى الصغار فيهم، لكي يفي ذلك بالحال المنصوب في الجملة، كأن لا يملكوا قرار بلاد المسلمين وأمثال ذلك. من هنا فهذه الأحكام الجزئية الكثيرة المبعثرة في علاقة المسلم بالذمّي ترجع إلى فهم فقهي قديم غير دقيق لهذا الحديث ولقاعدة العلوّ عموماً، ولهذا استشكل مثل السيد الخوئي في هذا الحكم الذي جاء في سؤالكم، وإشكاله في محلّه. (انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 1: 400؛ والوحيد الخراساني، منهاج الصالحين 2: 452).