السؤال: هل طرق إثبات الإجتهاد المذكورة في الرسائل العملية لا زالت تحتفظ بجدوائيّتها, خصوصاً أنّه عند البحث عن المجتهد نجد اختلافات حول اجتهاده, وبالتالي هل يمكن أن يرجع الباحث إلى إطمئنانه؟ (علي عباس).
الجواب: أعتقد بأنّ الطرق التي ذكرها الفقهاء للتوصّل إلى إثبات اجتهاد شخص هي طرق عقلانية عامّة وليست طرقاً دينية فقط، فأنت إذا أردت أن تثبت أنّ فلاناً طبيبٌ متخصّص، فإمّا أن تكون أنت من المتخصّصين أو المطّلعين بدرجة جيّدة على علم الطبّ، فتحتكّ به وتحاوره أو تقرأ له أبحاثه، فيتبيّن لك علمه (وهذا من سبيل العلم الذي يذكره الفقهاء)، أو لا يكون لديك الخبرة الكافية في مجال الطبّ، بحيث تستطيع أن تعلم أنّ فلاناً متخصّص في الطب أم لا، وفي هذه الحال من المنطقي أن ترجع إلى المتخصّصين في هذا العلم، لتسألهم عنه سواء كانوا متعدّدين أم كانوا شخصاً واحداً وسواء كانوا عدولاً في دينهم أم مجرّد ثقات مأمونين في شهادتهم (البيّنة أو شهادة الثقة). وفي حالة علم الطبّ هناك الشهادة التي يحملها الطبيب، والتي يمكنه أن يطلعك عليها، بحيث تكون بمثابة البيّنة أو إخبار الثقة بل الثقات (وهم الجهة العلميّة المصدّرة للشهادة والمصدّقة عليها) بتخصّص فلان في هذا العلم أو ذاك، فالطرق التي يذكرها الفقهاء لم يأتوا بها أساساً من نصوص دينية محدّدة بموضوع التقليد والاجتهاد، وإنّما هي قواعد عامّة في مجال إثبات الأشياء، أخذوها من النصوص العامّة ومن النهج العقلائي والعقلاني على مستوى وسائل الإثبات القانوني. من هنا أعتقد بأنّ هذه السبل ما تزال تملك منطقيّتها وانسجامها الداخلي.
لكنّ المشكلة التي تميّز الجوّ العلمي الحوزوي اليوم عن غيره في هذا الإطار (وإن كانت سائر المؤسّسات العلمية في عالمنا العربي تعاني من مشاكل غير قليلة أبداً، وبعضها يشبة مشاكل الوضع الحوزوي)، والتي تبدي لنا الوضع مأزوماً، ترجع إلى عناصر، أهمّها من وجهة نظري عنصران:
العنصر الأوّل: التجاذبات التي حصلت خلال نصف القرن الأخير، ونتيجة انفتاح مجالات النفوذ الاجتماعي والسياسي لكثير من العلماء عبر طرق وقنوات لا تنحصر بالإطار العلمي، فأنت الآن تجد إمكانيةً أكبر لادّعاء شخصٍ الاجتهاد حتى لو لم يكن مجتهداً واقعاً، وذلك أنّ عناصر: المال والقدرة الإعلامية والنفوذ السياسي، يمكنها أن تؤمّن له قدرةً ترويجيّة جيّدة، فتجد في خدمته ماكينة إعلامية جيّدة، تحاول ـ لمصالح ثانوية هنا وهناك ـ أن تقنع نفسها أو تقنع الآخرين باجتهاد فلان أو فلان أو أعلميّتهما، كما أنّ إمكانيات التزوير باتت كبيرة اليوم نسبيّاً، فبإمكان الكثيرين ممّن لا يوثّقون كتبهم بالهوامش والمصادر أن يجمعوا كتاباً فقهيّاً مهمّاً من كلمات الآخرين دون أن ينسبوها إليهم، فيظنّ غير المتابعين ـ ومنهم كثير من الحوزويين أنفسهم ـ أنّ هذا الشخص متعمّق، ولو أنّهم راجعوا مصادر الموضوع الذي كتب فيه لرأوا الاقتباس بأمّ أعينهم. كما وقد بات من الممكن اليوم ـ بل قد حصل ـ أن يُستخدم أشخاص لأغراض مالية، كي يقوموا بتدوين بحوثٍ علميّة يتمّ نشرها في السوق باسم الشخص الذي يدّعي الاجتهاد. إنّ التواصل الإعلامي والقدرة المالية والنفوذ الاجتماعي أو السلطوي وغيرها من الأمور، عناصر يمكن أن تفتح على مساحات في هذا العصر لادّعاء الاجتهاد، وما يميّز الأمور في عصرنا الحاضر ـ نتيجة التجاذبات وتعدّد التيارات ـ هو أنّ الكثير من المرجعيّات لا تستطيع أن تشهد بعدم اجتهاد فلان أو فلان؛ لأنّ هذه الشهادة قد تفضي إلى توتّرات اجتماعية أو سياسية على أرض الواقع، فيختار هؤلاء العلماء السكوت لمصالح ثانوية مجتمعيّة، ومن ثم يؤدّي ذلك إلى تكريس اجتهاد فلان الذي يعلم أهل الاختصاص أنّه لا حظّ له في هذا المجال، أو قد يكون له حظّ قليل.
العنصر الثاني: عدم وجود منهج محدّد وشامل لإعطاء شهادات الاجتهاد في الحوزات العلميّة، وسأشرح مقصودي، فلا توجد في المؤسّسة الدينية اليوم مرحلة علميّة يقطعها الطالب ثم يحظى بشهادة اجتهاد على أساسها كما هي الحال في الجامعات العصريّة، فأنت تجد طالب العلم يحضر عشر أو عشرين سنة دروس البحث الخارج في الفقه والأصول عند كبار الأساتذة، فإذا هو أراد تحصيل إجازة الاجتهاد، فإنّه يحاول التقرّب من الأستاذ وإبداء مهاراته أمامه، ممّا قد يعطيه فرصةً كي يمنحه الأستاذ شهادةً في الاجتهاد، ولكنّ الكثيرين ليس لديهم هذا المزاج، عنيت مزاج التقرّب والملازمة للفقيه، ومن ثمّ يُحرمون من هذه الشهادة، فلا توجد جهة إدارية تقوم بتلقّي هذا الطالب بعد عشر سنوات مثلاً من حضور الدراسات العليا لكي توفّر له الظروف للحصول على شهادة، فتبقى خطواته شخصيّةً، فأنت في الجامعة تنهي مرحلة الدراسات العليا ويلزمك كي تحصل على الشهادة أن تقوم بتقديم أطروحة دكتوراه، فيراجعها الأساتذة وتتمّ مناقشتها وينتهي الأمر، وهذا ما حصل اليوم في الحوزة العلمية في مدينة قم، لكن على مستوى شهادات الماجستير وأمثالها، لا على مستوى شهادات الاجتهاد، فإنّ الأمر ما يزال محدوداً للغاية، وإن كانت إدارة الحوزة العلمية ـ فيما يبدو لي ـ تحمل هذا الهمّ. ومن هنا تدخل عملية أخذ الشهادة في سياق العلاقات الشخصيّة مع المرجع أو الفقيه، لا في سياق قانون عام يوفّر للجميع إمكانية الوصول إلى هذه الشهادة. كما أنّ المانحين من الأساتذة لإجازات الاجتهاد هم أيضاً يخضعون في هذا الأمر لاعتبارات كثيرة، فلو أنّ شخصاً يملك مقوّمات الاجتهاد لكنّه محارب فكريّاً أو سياسياً في الحوزة، فإنّه من الصعب أن يحظى بمن يشهد بعلمه؛ لأنّ القضيّة تدخل دائرة التعقيدات والتجاذبات والحسابات، وتنشط فيها جماعات الضغط. فالتقديرات والتقويمات تتبع في بعض الأحيان الموقف من الشخص نفسه، فإذا انتمى إلى تيار فكري معيّن فمن الممكن أن يتمّ تشويه صورته أحياناً، فيتحفّظ المجتهد عن أن يمنح إجازة اجتهاد لهذا الشخص، والعكس هو الصحيح؛ فلو أنّ شخصاً كان يواجه تياراً فكرياً ما وكانت هناك حاجة لتقويته، فإنّه من الممكن أن يتمّ التخلّي عن بعض التشدّد في منحه إجازة اجتهاد، وفي تقويم وضعه لمصلحة نوعية، لكي يبدو فقيهاً معتمداً في مواجهة شخصٍ آخر أو تيارٍ آخر. يضاف إلى هذا كلّه أنّ بعض الفقهاء يتحفّظ جدّاً من إعطاء شهادة اجتهاد حتى لمن يراه أهلاً، انطلاقاً من أنّ تجربة الواقع تستدعي ذلك، حيث قد يقوم من يأخذ الإجازة بتصرّفات أو طروحات تحسب في نهاية المطاف على المجيز، فيطالَب كيف أعطاه إجازةً؟ ولهذا بات التحفّظ واضحاً عند بعض الفقهاء في هذا المجال، وكلّما صار هذا الفقيه مرجعاً للتقليد تناقص احتمال إعطائه شهادةً لغيره في الاجتهاد نتيجة تعقيدات الواقع هذه. يضاف إلى هذا كلّه أيضاً أنّ التحوّلات الفكريّة في القرن الأخير أحدثت مناهج متعدّدة في الاجتهاد داخل الحوزات العلميّة، وهذا الاختلاف يجعل من يتبنّى منهجاً ما غير معتدّ بمن يعمل وفق المنهج الآخر ويراه سطحيّاً، فيما نرى من يأخذ بالمنهج الآخر غير معتدّ بمن يعمل على المنهج الأوّل ويراه غير عرفي ولا لغوي، وإنّما محض تأوّلات وتكلّفات وتخمينات وغير ذلك، وهذا أيضاً يترك بصماته على شهادات الاجتهاد.
هذا الواقع موجود بدرجة معيّنة (لا أنّ الواقع كلّه هكذا، فهذا ظلم للواقع الحوزوي)، لكنّني أعتقد أنّ من يحمل إجازة اجتهاد حقّاً هم في الغالبية الساحقة مجتهدون وفق السائد، فمن النادر القليل أن لا يكون الأمر كذلك، لكنّ الكثير ممّن لم يأخذ إجازة اجتهاد هم في الواقع مجتهدون. نعم قد تجد من لديه إجازات اجتهاد لكنّه غاب عن ملكة الاجتهاد نتيجة غيابه عن الممارسة البحثيّة والتدريسيّة، وهذه ظاهرة واضحة عند البعض القليل من الكبار في السنّ، ممّن لم يواصلوا مساراتهم البحثية والتدريسية، ولهذا فمن المنطقي ـ بنسبةٍ ما ـ ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين من أنّ الممارسة ضروريّة في مجال الاجتهاد والتقليد.
وعليه، فتجاذبات الواقع هذه وكوننا نمرّ في مرحلة حرجة، يمكن أن يوحي للآخرين بأنّ وسائل الإثبات التي طرحها الفقهاء غير ذات جدوى، أو أنّها لا تستطيع أن تعكس لنا الواقع بأمانة ودقّة، ليس لنقص فيها بل لارتباك في الواقع نفسه. ولكنّ الفقهاء قالوا بأنّه في هذه الحال لا يحكم باجتهاد شخص ما لم نثبت اجتهاده، ولو تعارضت الشهادات أخذ بأكثرها خبرويّة أو بمن يكون الوثوق بها أقوى، وإلا تساقطت الشهادات على وفق القاعدة. وأمّا الاطمئنان الشخصي بالاجتهاد فهذا لا قيمة له من الناحية الموضوعيّة ما لم يقع من شخص مطّلع على العملية الاجتهادية وفاهم لطبيعتها؛ لكي يستطيع تقويم الأشخاص ولو لم يكن في حدّ نفسه مجتهداً، وإلا فهو كاطمئنان شخص بخبروية آخر في الطب رغم أنّ هذا الآخر لا يملك أيّ شهادة ولا يوجد شياع مفيد للعلم فيه ولم يتمّ اختباره بشكل مباشر.