السؤال: هل يجوز للفقيه ـ على مبنى تأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة أو أدلّة أخرى ـ تغيير الفروض الواردة في القرآن الكريم في الإرث؟
الجواب: يمكنني القول باختصار وبنصٍّ مكثّف بعض الشيء ـ وللموضوع مجالات كلام متعدّدة ـ: إنّ الفقيه مكتشفٌ للأحكام الشرعيّة المودعة في الكتاب والسنّة، ولا يحقّ له ولا لمطلق وليّ الأمر ـ وفقاً لفهمي القاصر ـ أن يقوم بتغيير أيّ حكم شرعي ثبت في الكتاب والسنّة، كما لا يحقّ له تشريع أيّ حكم في عرض الكتاب والسنّة من حيث المبدأ.
نعم، يستثنى من ذلك (وبعض هذه الاستثناءات متصل، وبعضها منقطع) حالات أبرزها ثلاثٌ أساسيّة، هي:
1 ـ أن تكون لدى الفقيه نظريّة أصوليّة اجتهاديّة تقضي في هذا المورد أو ذاك بعدم الاقتناع بحصول إطلاقٍ زماني أو ظرفي لقانونٍ معيّن تمّ تبيينه في الكتاب والسنّة، أي إنّه يفهم من النصوص أو السياقات أنّ هذا الحكم القرآني أو النبوي: أ ـ زمنيّ مرحليّ. ب ـ أو ظرفي مقيّد مفقود القيد اليوم. ج ـ أو ولائيّ سلطاني (ومعنى الولائيّة أنّه حكم صدر من زاوية الولاية لا من زاوية أخرى، فيحقّ لكلّ من له الولاية التصرّف فيه بما يراه المصلحة)، وفي هذه الحال يمكن أن يقول بانتهاء أمد هذا الحكم في العصر الحاضر، بناء على القول بأنّ ولائيّة الأحكام النبويّة محدودة الزمان في حال حياته لا إلى يوم القيامة، كما هو الصحيح الذي بيّناه في بحثنا حول الاحتكار في الشريعة الإسلاميّة، خلافاً لبعض الفقهاء المتأخّرين ممّن قال بإطلاقيّة الأحكام الولائيّة النبويّة إلى يوم القيامة من حيث المبدأ.
2 ـ أن يكون هناك عنوان ثانوي حاكم على العنوان الأوّلي المبيَّن في الكتاب والسنّة، مثل عناوين الحرج والضرر وقوانين التزاحم والأهم والمهم وغير ذلك، ففي هذه الحال يمكن لوليّ الأمر أن يجمّد حكماً أوليّاً بمقدار دلالة الدليل الثانوي لا أكثر، وليس هذا التجميد من عنده، بل هو اكتشاف لعلاقة الأحكام فيما بينها.
ومبدأ التجميد للعنوان الثانوي وتعيين كلّيات العناوين الثانوية ونظام العلاقات بين الأحكام هو من شؤون الفقيه بما هو فقيه، أمّا تشخيص مصاديق هذا الأمر وأنّ المورد من موارد قانون التزاحم وتعيين الأهمّ مصداقاً من المهم ونحو ذلك، فهذا من شؤون الدولة ووليّ الأمر بما هو وليّ الأمر في الدائرة العامّة، التي لو أحيل الأمر في تشخيص المصاديق فيها إلى آحاد المكلّفين للزمت الفوضى والهرج والمرج أو فساد كبير، وإلا كان التشخيص من شؤون المكلّفين من حيث المبدأ.
3 ـ أن تجعل الشريعة من الأوّل للفقيه أو لوليّ الأمر (الدولة) سلطةً وصلاحيةً في مساحة معيّنة من الوقائع تسمح له فيها بسنّ قوانين أو نحو ذلك، كما هي الحال في نظريّة منطقة الفراغ التي طرحها السيد محمّد باقر الصدر وغيره (وإن كانت عندي ملاحظات عدّة على هذه النظريّة بالشكل المطروح حاليّاً، تعرّضنا لها في محاضراتنا حول الثابت والمتغيّر)، أو نقول بأنّ بعض المساحات في الوقائع الحياتيّة لم تتدخّل فيها الشريعة، وهذا بنفسه تخويلٌ قانوني شرعيّ إلهي للإنسان بتنظيم أموره في هذه المساحات وفقاً لما يراه الصالح العام، على أساس ضربٍ من التعاقد الاجتماعي أو غير ذلك، شرط انسجام قوانينه هذه مع الخطوط العريضة والمؤشرات الشرعيّة العامّة والمقاصد الدينيّة الكلّية في الكتاب والسنّة.
أمّأ في غير هذه الحالات الثلاث، فالأصل يقتضي عدم ثبوت الحقّ للفقيه ولا للدولة في تغيير أو سنّ تشريعٍ معارض أو موازٍ للشريعة الإلهيّة، فالفقيه بما هو فقيه مكتشفٌ لأحكام الله تعالى (الدائمة أو المؤقتة) من النصوص الدينية التأسيسيّة، ووليّ الأمر ـ بما هو وليٌّ للأمر ـ منفّذٌ لأحكام الله تعالى وليس في عرضها، وصلاحياته الثابتة له في الشريعة هي صلاحيّات إجرائيّة تخوّله التصرّف في أموال الدولة والممتلكات العامّة وإلزام الأفراد بإجراء القوانين الشرعيّة وفقاً لما يراه الأفضل زمنيّاً في طريقة الإجراء، وليست صلاحيات تشريعيّة، إلا في النطاق وبالمعنى الذي أشرنا له في النقطة الثالثة آنفاً.
وبناء عليه، ففي المثال الذي ذكرتموه في سؤالكم، لا يمكن تغيير قوانين الإرث القرآنيّة إلا إذا:
أ ـ قدّم الفقيه نظريّةً علميّة نجح من خلالها في شلّ قدرة هذه النصوص القرآنيّة على الشمول الإطلاقي الزماني والظرفي، بافتراض أنّها تشريعات مقيّدة بظروف زمنيّة خاصّة تغيّرت وتلاشت اليوم، وهذا يحتاج إلى مقاربة علميّة، وليس إلى مجرّد كلام إعلامي خطابي فضفاض. وقد قلتُ في كتاب (حجية السنّة في الفكر الإسلامي) بأنّ النصّ القرآني غير آبٍ عن أن تكون فيه بعض الأحكام المرحليّة الزمنية من حيث المبدأ، كما لم يكن آبياً ـ عند مشهور الفقهاء المسلمين ـ عن الأحكام المنسوخة التي هي شكلٌ من أشكال الزمنيّة والظرفيّة عندهم.
ب ـ أن يكون تطبيق هذه الأحكام اليوم محكوماً لعناوين ثانويّة قاطعة كالأهم والمهم، كما لو لزم من هذا التطبيق في هذا الظرف الخاصّ مفسدة عظيمة جداً أكبر من مصالح التطبيق. والله العالم. هذا، وللكلام بعض التفاصيل الأخرى لا مجال لها الساعة.
اتمنى من الدكتور حب الله ان يجمع مسائل موضوع الثابت والمتغير من الشريعة ويلملم الاراء حول الموضوع ويستعرض القراءات المطروحة ويخرجها لنا بمولف لان مثل هذه الدراسة اتصور سوف تغني المكتبة العربية .