السؤال: يذكر بعض العلماء أنّ المراد من قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، هو أنّهم حصل لهم شهود أنفسهم، أي حصل لهم الكشف الشهودي لأنفسهم، وأنّ هذه الآية تدلّ على أنّ معرفة النفس تعني معرفة الله سبحانه أو تؤدّي إليها، هل توافقون على هذا التفسير؟ أرجو أن تبيّنوه لي (جعفر، البصرة).
الجواب: هذه الآية الكريمة لا علاقة لها ـ في تقديري المتواضع ـ لا من قريب ولا من بعيد بموضوع العلم الشهودي الذي يطرحه الفلاسفة والعرفاء، والذي جرى إسقاطه هنا على الآية الكريمة، انتصاراً للنزعة العرفانية التي ترى وجود ترابط بين معرفة النفس ومعرفة الله بمعنى خاصّ، فمن عرف نفسه عرف ربّه، ومبرّر ما نقوله هو أنّ تعبير (أشهده على نفسه) يعني في لغة العرب: (أخذ منه إقراراً)، والإقرار هو شهادة على النفس، والآية الشريفة لا تقول: وأشهدهم أنفسَهم، بل تقول: وأشهدهم على أنفسهم، أي أخذ منهم إقراراً بأنّ الله ربّهم، فإنّ قوله بعد ذلك: (ألست بربّكم قالوا بلى) شرحٌ لهذا الإقرار، فيكون المعنى: لقد أخذ الله من الناس إقراراً أقرّوه على أنفسهم بأنّ الله ربّهم. هذا هو معنى الآية في لغة العرب وبحسب الدلالة العرفية، وهذا التعبير سائد جدّاً في اللغة العربية، وقد استخدمه القرآن الكريم نفسه، حيث قال: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (الأنعام: 130)، والمعنى نحن نقرّ بأنّه قد جاءتنا الرسل، وقد أقرّوا أنّهم كفروا بالله، وقال تعالى: (فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (الأعراف: 37)، أي وأقرّوا بكفرهم، وقال سبحانه: (ما كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) (التوبة: 17)، أي ما صحّ أن يأتوا إلى مساجد الله وهم يقرّون بالكفر ويعلنون أنّهم لا يؤمنون بصاحب المسجد وهو الله سبحانه.
ومن أكبر الأخطاء التي رأينا انتشاراً واسعاً لها في العقود الأخيرة في وسط المشتغلين بالدرس الفلسفي والعرفاني، هو الوقوع في شَرَك تشابه الألفاظ وفهم النصّ القرآني فهماً فلسفيّاً أو عرفانيّاً نتيجة ذلك، فقد تمّ هنا التقاط كلمة (أشهدهم)، وإجراء مقاربة بينها وبين مصطلح (الشهود) الوارد في كلمات العرفاء، فكانت النتيجة أنّ المقصود في الآية هو شهود النفس، بما لهذه الكلمة من معنى صوفي معروف، وينبغي علينا دوماً التنبّه لمثل هذه الأخطاء، كي لا نقع في تفسيرات غير عربية للنصّ القرآني الكريم.