الجواب: يمكن ـ باختصار ـ التعليق على هذه المداخلة النقديّة المشكورة بعدّة نقاط، وهي:
أولاً: بدا لي أنّه قد أخذ في كلامكم المشهد الشيعي مبتوراً عن الحراك الهائل الذي كان في القرنين الثاني والثالث الهجريين؛ فقد وقعت في هذين القرنين أكبر الخلافات في تفسير النصوص بين المسلمين، وليس فقط في إثباتها، بما فيها النصّ القرآني الكريم نفسه، فكيف يمكننا القول بأنّ الخلافات كانت في الوصول إلى النصّ وليس في فهمه. علماً أنّ الوصول إلى النصّ هو بنفسه يحتاج إلى معادلة اجتهادية، ونظريّة حجيّة الأخبار في الوسط الإسلامي العام طرحت منذ القرن الثاني الهجري، والرواية المشهورة عن الإمام علي عليه السلام ـ في تقسيم الرواة إلى أربعة أصناف ـ تشي بشيء من هذا النوع في الأزمنة الأولى، وإن كانت ضعيفة السند.
ثانياً: إنّ تفسير الانقسامات الشيعيّة على أساس مسألة الدفاع عن المذهب، هو في رأيي المتواضع تفسيرٌ غير قريب من واقع هذه الخلافات، وربما ينطلق من الرواية التي جاءت تبرّر هجوم الإمام عليه السلام على زرارة، وهي فكرة أخذ بها فيما بعد المحدّث البحراني. لكنّ واقع النصوص الحديثية التي يخبرك عنها ـ على سبيل المثال ـ كتاب الرجال للكشي، الذي يمثل أقدم مصدر في الفرق الشيعيّة كمادة خام، تؤكّد لنا أنّ الخلافات كانت حقيقيّة إلى حدّ التفسيق والتكفير والطرد، ولم تكن شكلاً من أشكال المراوغة أو التكتيك في الدفاع عن المذهب.
ثالثاً: إنّ القرب اللغوي الذي تفرضونه لا يمنع من الخلافات في التفسير، فكما قلت لكم، في هذه القرون انفجرت كبرى المعارك اللغوية أيضاً، وليس فقط في إثبات النصوص، ولا في الفقه لوحده، علماً أنّ القرنين الثاني والثالث شهدا دخول غير العرب في المسلمين وفي الحياة العلميّة أيضاً، وهذا ما يترك أثره على الموضوع اللغوي.
رابعاً: إنّ الرجوع إلى أصحاب الإمام ليس أمراً بهذه البساطة، كي يحلّ المشكلة، فالنقل في ذلك الزمان كان في كثير منه بالمعنى، وهذا يعني أنه يخضع لفهم تلامذة الإمام عليه السلام، والفهم قضيّة متفاوتة بين الناس مهما كانوا في مستوى علمي رفيع. علماً أنّه ليس كلّ الأئمة كان يمكن الوصول إليهم، فقد تعقّدت هذه الحالة جداً في عصر الإمام الكاظم، وكذلك في عصر الإمامين العسكريين. والصورة التي نتصوّرها نحن اليوم بإسقاط صورة المرجع على الإمام، ووجود هذا التنظيم وعمليّة رجوع العامة من الناس إلى المرجع، ولو بالوسائط، هي ظاهرة مستجدّة باعتراف كلّ مؤرّخي هذا النظام في التواصل الديني، فينبغي الحذر من إسقاطه على التجربة التاريخيّة عصر الحضور.
خامساً: إنّ ما يقوله الشهيد الصدر الثاني رحمه الله فرضيّة جيدة، لكنّها غير مؤيّدة بالأدلّة، فنصوص التعارض وردت عن الإمام الصادق المتوفى عام 148هـ، أي قبل أكثر من قرن من الغيبة الصغرى، فضلاً عن الكبرى. وظاهرة التعارض عينها ابتلى بها أصحاب الأئمة في الأزمنة الأولى، كما تشير روايات التعارض التي يمكن مراجعتها في كتاب القضاء من (تفصيل وسائل الشيعة)، مثل مقبولة عمر بن حنظلة، ومرفوعة أبي خديجة وغيرهما، فلا يوجد ما يؤكّد أنّ هذه النصوص جاءت في سياق تهيئة المجتمع الشيعي لعصر الغيبة، بل المنطقيّ أكثر أنّها جاءت في سياق مواجهة وقائع قائمة في عصر صدورها.
سادساً: عندما نؤكّد الاجتهاد في زمن، فهذا لا يعني وحدة أشكاله مع زماننا، وهذا بديهي. وحتى الاجتهاد في زمن الشيخ الطوسي يختلف عن زماننا، حتى قال الشهيد مطهّري مقولته المشهورة: إنّه لو بعث الشيخ الطوسي اليوم لكان مقلِّداً لا مجتهداً، فكلامي الأخير الذي نقلتموه أعلاه ليس تردّداً بقدر ما هو توضيح للمفاهيم.
سابعاً: قد تقولون لي: أليس من الممكن الرجوع للفهم العرفي والعقلائي للنصوص تبعاً لظواهرها اعتماداً على مقاصد الشريعة، فلا يعنينا الفهم الشاذ، ومن ثم فالمسألة اللغوية غير معقدّة كما تقولون؟ فيمكنني الجواب بأنّه قد أثبتت تجارب الفكر البشري في قراءة النصوص الدينية وغير الدينية أنّ المشكلة ليست في وجود فهم شاذ وآخر عقلائي وعرفي فقط، فهذا جزءٌ من مشكلة فهم النصوص، وإنما المشكلة الأعقد أنّ النص واللغة ظاهرة هلاميّة. خذ الآن جملة ثم ألقها على عشرة أشخاص من حولك، واطلب منهم تفسيرها، وانظر كيف ستكون الاختلافات، ثم اطلب من عشرة آخرين أن يقرؤا تفسيرات العشرة الأوائل ويفسّروا الجملة بعد قراءتهم لتفسيرات العشرة الأوائل، لتنظر كم سيكون عندنا من تفسيرات يزداد تعقيدها كلّما غاب شخص المتكلّم عن ناظري السامع، وبدأت الوسائط. إنّه لا يصحّ في تقديري أن نفسّر الخلافات دائماً بطريقة الخير والشرّ، فالقضيّة أعقد من ذلك بكثير، فأبناء المذهب الواحد اختلفوا فيما بينهم، وكلّهم خير وبركة والحمد لله. ولن أطيل في هذا الموضوع، فقد كتب فيه التراثيّون والحداثيون ما يكفي.
ثامناً: فيما يخصّ مجموع الأحاديث من المسلمين كافّة، فإنّ قناعتي التي تعرّضت لها في كتابي (مسألة المنهج في الفكر الديني)، تقضي بأن نعمد إلى جمع كلّ أحاديث المسلمين في موسوعة حديثيّة إسلامية واحدة؛ لأنّ هذا أحد أهم السبل لتنامي مسيرة اليقين بالحديث الشريف، دون أن يعني ذلك فقدان الأحاديث المذهبيّة الخاصّة لليقين أحياناً أيضاً. كما قمت ـ في السياق عينه ـ بتقديم اقتراح آخر في كتابي (دروس تمهيدية في تاريخ علم الرجال عند الإماميّة)، يقضي بموسوعة رجالية ضخمة، تجمع كلّ الرواة عند كلّ المذاهب، وكلَّ المواقف والترجمات المدوّنة حولهم عند كلّ المذاهب أيضاً، وتوضع بين أيدي الباحثين، إنّني أوافق على هذا المنهج وأدعو إليه، وقد سبق أن ألقيت في دروسي في البحث الخارج أكثر من عشرين محاضرة حول التأسيس الأصولي والحديثي لشرعنة هذا المنهج، ليستعين المسلمون بتراث بعضهم بعضاً في مجال الحديث والدراسات الحديثية، بما يخدم مسيرة الحديث الشريف عامّة، مع قابلية هذين المشروعين لتقييدات وشروط علميّة خاصّة.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
78 | هل كان هناك اجتهاد في عصر حضور المعصوم؟ | 2014-05-12 | 0 | 1247 |
هل كان هناك اجتهاد في عصر حضور المعصوم؟
السؤال: تحدّثتم في كتابكم (نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي) عن مسألة الاجتهاد في عصر الحضور وأثبتّم وجوده، وهو العصر الذي تكاد فيه رواية الحديث واستماعه العامل المسيطر في تعلّم الأحكام الدينية. فالبعد الجغرافي عن الإمام الذي اعتبرتموه شاهداً، لا يكفي شاهداً على ضرورة الاجتهاد لأنّ التغيّر الحياتي بطيء جدّاً آنذاك، بما لا يستلزم إصدار أحكام جديدة. فمن الممكن الرجوع إلى الإمام أو إلى أحد أصحابه ممّن هو على دراية بالروايات الصحيحة الصادرة عنهم. والقرب الزمني اللغوي يجعل من السهل الممتنع فهم مقاصد الروايات والاستنارة بإرشادها دون الحاجة لتفعيل الأدوات الاجتهادية أو الرجوع للمعاجم اللغويّة والأصولية والفقهيّة. فالبعد المكاني الجغرافي كان يشكّل مشكلة في الاستماع إلى الرواية والحصول عليها من طريقها المأمون. من هنا فالاجتهاد في عصر الحضور يضعنا على نفس المشكلة التي يحاول الكتاب معالجتها، وهي الأحكام الظنيّة؛ وذلك لكون الاجتهاد بين كفتي الصواب والخطأ، تبعاً لدقّة المعطيات ودقّة تطبيقها، فالرجوع إلى المعصوم يشكّل عامل اطمئنان لعمل المكلّفين. على أنّ تنوّع المدارس والمشارب الفقهية لا يكفي أن يكون دليلاً على وجود الاجتهاد؛ وذلك لقدرتنا على قراءة هذه المفردة بصورة مغايرة، تبعاً للجدال المذهبي الحادّ الذي تفرضه المؤسّسات الحاكمة تجاه مدرسة أهل البيت عليهم السلام, وهو ما يستلزم تعدّد المدارس لمواجهة التيارات المتباينة والمتنوّعة للدفاع عن مدرسة أهل البيت. كما نرى من المهم الإشارة الى النقطة الهامة التي تتحدّث عن تعليم الأئمة لأصحابهم طرائق التعامل مع النص, وتعلّقها بعصر الغيبة، فهناك العديد من الباحثين والدارسين ـ من أمثال الشهيد الصدر الثاني ـ يرون أنّ الأئمة خصوصاً المتأخّرين منهم كانوا يهيئون القاعدة الشعبية لعصر الغيبة والتي نلمس بدايتها في عصر الإمام الصادق علية السلام, ولا نعلم إن كانت هناك نصوص مبكّرة في هذا المجال أم لا. على أنّنا نلمس من كلماتكم الجميلة التوجّس من الجزم بكفاية الأدلّة في هذا الموضوع فقد قلتم في الصفحة رقم 43: (ومن ثم فالاجتهاد الذي كان يمارسه الفقيه كان محدوداً جداً, فعندما سردنا عناصر تؤكّد وجود ظاهرة الاجتهاد في الوسط الشيعي عصر حضور النص, لم نقصد مفهوم الاجتهاد في أبعد مدياته، بل تلك الظواهر الأوليّة..). وأخيراً، أقترح أن يعاد قراءة السنّة في ضوء المشترك بين المدارس الشيعية أولاً، ومن ثم دراستها في ضوء المذاهب الإسلامية المختلفة، وهو ما قد يؤسّس لسنّة يقينية. ما هو تعليقكم على هذه المداخلة النقديّة؟ (برير، السعودية).