السؤال: من المعروف أنّ العرفان الشيعي قد اُخذ من المتصوّفة، سؤالي: هل العرفاء الشيعة قبلوا كلّ ما في هذا العرفان الصوفي دون أن ينقدوه مثلاً أو يعارضوه أو حتى يطوّره حسب ما يتّفق مع عقيدتهم، أم أنّهم اكتفوا بالنقل والشرح لا غير؟ وأنا هنا أخصّ العرفاء، وليس المحدّثين أو الفقهاء.
الجواب: لعلّه ينبغي أن نلاحظ عدّة أمور هنا:
1 ـ من الناحية المبدئيّة، فإنّ العرفاء يرون أنّ علومهم كشفيّة وحضوريّة، وهذا مصدر معرفي أهم وأرقى بالنسبة إليهم من الأدلّة العقلية، والنقلية القائمة في كثير منها على الظنون كما هو المشهور، فلا يصحّ أن نخاطبهم بالقول بأنّ عليكم أن تكيّفوا عرفانكم مع العقيدة، فهذا أشبه بقول القائل: إنّ على علم الطب أن يكيّف نفسه مع عقيدة النبوّة! فلكلّ علم معاييره، وإذا كنّا نناقش العرفاء فلنناقشهم في معاييرهم العلميّة ومدى جدوائيّتها وسلامتها، لا في أنّ هذا المنهج يعارض العقيدة أم لا، فالعقائد متفرّعة على البحث العلمي الكامل لا العكس، فأنت تبني عقائدك بعد أن تكون قد سرت في جولة على مختلف المعطيات العلميّة المتصلة بموضوعات العقيدة، سواء أتت من النص أم العقل أم القلب أم أيّ مصدر معرفي آخر، فما يفعله بعضنا اليوم من النقد على شخص قدّم دليلاً على فكرة، بأنّ كلامك يخالف العقيدة، هو شيء غير منهجي، فإنّ العقيدة ليست معيار الحقّ والباطل، بل أدلّتها هي معيار الحقّ والباطل معرفيّاً، فإذا جاء دليل معارض لأدلّة العقيدة لزم البحث فيه، لا الإعراض عنه بحجّة منافاته للعقيدة، فتأمّل جيّداً فإنّ هذا الأمر ربما يكون من أشهر مغالطات هذا الزمان الذي نحياه.
2 ـ إنّ العرفاء الشيعة طوّروا كثيراً من القضايا العرفانية التي أخذوها من السابقين عليهم، وأضافوا الكثير الكثير من المفاهيم، بل بالعكس تماماً فقد وظّفوا العرفان في خدمة قضاياهم المذهبيّة في غير موقع وموضع، ولك أن تراجع قضيّة الإنسان الكامل والولاية العرفانية ونظرية الفيض والوسائط لترى كيف قاموا بعمليات توليف غير عادية بينها وبين نظريات النبوّة والإمامة في الكلام الإسلامي والمذهبي، فليس كلّ ما أتى من العرفاء هو مناقض للدين كما يحلو للبعض اليوم أن يقول، بل إنّ بعض الأفكار التي يؤمن بها الكثير من الفقهاء والمتكلّمين والأصوليّين اليوم ترجع جذورها إلى مقولات العرفاء التي طُوّرت على يد الفلسفة الصدرائيّة.
3 ـ إنّ العرفان ليس شرحاً أو تعليقاً كما يوحي به سؤالكم، بل هو من وجهة نظر أنصاره تجربة ذاتية روحيّة باطنيّة تسلك بالإنسان في رحلة عميقة في باطن الوجود الذي نرى ظواهره فقط، إنّ العرفان ليس شرحاً لكتاب الأوراق، بل هو تجربة في كتاب الوجود، وإذا كانت لبعض العرفاء شروحات فهي من باب العرفان النظري أو فلسفة العرفان أو البحوث النظريّة المتصلة بقضايا العرفان، فهناك فرق بين التجربة العرفانية وبين البحث العقلي والنظري في العرفان وقضاياه.
4 ـ يبدو من سؤالكم أنّكم ترون أنّ العرفان وليدٌ سنّي المذهب أو غير إسلامي، وأنّه جاء إلى الشيعة من السنّة أو من غير المسلمين، وهذه نظريّة تاريخية لها أنصارها، ولكنّ الكثير من العرفاء ـ وربما جميعهم ـ يرون أنّ العرفان يرجع في أصوله إلى الكتاب والسنّة، وإلى أهل البيت بالخصوص، ولابدّ أن نأخذ هذه الفكرة بعين الاعتبار عندما نتعامل مع العرفاء، ومن الضروري أن نناقشهم فيها قبل أن نرسل دعوى اقتباسهم من السنّة أو غير المسلمين في هذا الإطار، وأنا لا أنفي هذا الأمر، بل قد تجدني أكثر ميلاً إلى وجهة نظركم بدرجة معيّنة، لكنّ حقّ البحث وضرورات المعالجة العلميّة تستدعي عدم المصادرة على الآخرين.