السؤال: نقل عنكم أنّكم تنكرون وجود بطون للقرآن الكريم، وترون أنّ له دلالةً ظاهرة فقط، فما هو تعليقكم؟ (فؤاد، السعوديّة).
الجواب: لا ننكر وجود بطون للقرآن الكريم، بمعنى مقاصد غير ظاهرة إلا بالحفر والتحليل والضمّ ومقاربة الآيات ومقارنتها وما شابه ذلك، لكنّنا لا نرى ـ على مستوى القاعدة ـ منهجاً ما فوق عقلائي أو عرفي في الوصول إلى هذه البطون، بالنسبة لغير المعصوم على الأقلّ، وهناك فرق بين أن ننكر وجود البطون، وهذا ما لا أراه صحيحاً، وبين أن نعترف بالبطون، غاية الأمر ننكر منهجاً خاصّاً في فهمها وادّعائها، وهو المنهج المتعالي عن اللغة العربية بمدياتها الواسعة الرحبة، فالبطون قشرةٌ دلاليّة أو مدلوليّة في النصّ، تنكشف بالحفر عبر ظاهره وبطريقة تحقّق التناسب بين الظاهر والباطن، بحيث يُطالَب المدّعي لتفسيرٍ باطني لآيةٍ ما أن يبيّن كيف وصل إليه من خلال الألفاظ، وإذا كان النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يتّصل بالقرآن اتصالاً روحيّاً بالإلهام؛ فنحن بحاجة لمن يثبت لنا أنّ هذا الأمر يحصل لغيره، ولا يكفي الادّعاء وحسن الظنّ، وإلا فلا تكون كلّ تلك النتائج التي يزعمها غيره حجّةً علينا ما لم تقدّم لها شواهد من النصّ نفسه تقوم على البنية العقلائية للغة، ولو راجعتم دراستي المتواضعة حول البطون (والمنشورة في الجزء الثالث من كتابي: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، لرأيتم أنّني كنت مصرّاً على عدم رفض فكرة البطون، بقدر الحديث عن رفض المنهج المتحرّر في فهمها، بحيث يأتيك عارفٌ أو فيلسوف أو متكلّمٌ أو أستاذ أخلاق أو غيرهم، فيدّعي في الآية الكريمة معنى لا يفهمه حتى من يغوص في الدلالات اللغويّة ويقارب الآيات ويقارنها، وعندما تطالبه بالدليل يقف مستهجناً طلبَك، وكذلك عندما تقول له بأنّ اللغة لا تتحمّل هذا المعنى وأنّه مجرّد افتراض، وكأنّ المطلوب هو التصديق لكلامه بلا دليل من النصّ القرآني نفسه، فالبطون فكرةٌ صحيحة، لكنّها لا تحوّل النصّ القرآني من نصّ عقلائي في البيان يعتمد منهج العقلاء في التفاهم والمحاورة والتفهيم والتبيين، إلى نصّ ما فوق عقلائي، فهذا هو الذي رأيت أنّه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنّة ولا من العقل بحسب وجهة نظري المتواضعة، وهذا هو ما يقوله غير واحدٍ من المفسّرين وعلماء القرآنيات أيضاً، ليس آخرهم العلامة المغفور له الشيخ محمد هادي معرفة رحمه الله. والمشكلة أنّ الشيء الذي بات ينصرف إلى أذهان الناس من فكرة البطون هو أنّها مربوطة بتلك المعاني التي لا نصل إليها باللغة، ولعلّ السبب في ذلك تاريخيٌّ؛ من جهة أنّ فكرة البطون اشتهر بها المتصوّفة، لكنّني أرى أنّ البطون تعني في اللغة كلّ ما لم يظهر واحتاج في ظهوره إلى حفر وسعي، وهذا يعني أنّ الكثير من الاستنتاجات القرآنيّة للمفسّرين والفقهاء وغيرهم عبر التاريخ هي استنتاجات لبطونه، فعندما يأتي السيد محمد باقر الصدر ويستخرج سنن التاريخ وقواعد الصيرورة البشريّة من النصّ القرآني عبر حفرٍ جديد لم يكن بادياً بسهولة، فهذا معناه أنّ نتائج فكرة الصدر في السنن التاريخية هي من بطون القرآن؛ لأنّ النظرة الأوليّة للنصّ لا توحي لك بها، لكنّ التحليل والمقاربة المعتمدَين أيضاً على اللغة ـ بمعناها الواسع ـ يقدّمان لك معاني جديدة، فهذه المعاني تكون بطوناً، ولِمَ لا تكون كذلك؟! وقد فسّر الشيخ المفيد الباطن القرآني بأمثلة تصبّ كلّها في إطار الاجتهاد الإسلامي المعروف الذي لا يقف عند حدود اللفظ بجذره اللغوي، بل يحاول تحليل القرائن والسياقات الداخلية والخارجية على طريقة الفقهاء والأصوليين، ويمكن مراجعة كلامه في مختصر التذكرة في أصول الفقه، والموجود في كتاب (كنـز الفوائد: 187)، ليتأكّد من ذلك.