السؤال: يذكر بعض العلماء أنّ فكرة بطون القرآن تعدّ تطبيقاً لفكرة تعدّد القراءات الدينية، وحيث إنّ الشيعة يرون بطون القرآن الكريم، فهم أوّل من نظّر لفكرة تعدّد القراءات الدينية. كما يرى هؤلاء بأنّ الفقيه مثلاً حيث لا يفهم كلّ زوايا الدين فهو بحاجة دائمة للمعصوم، ليس بمعنى أنّه لو ظهر لكان ذلك أفضل له، بل بمعنى الحاجة الحالية، فالمعصوم الآن هو الذي يمدّ العلماء بالأفكار ما دامت النصوص المتبقية قليلة؛ لأنّ المعصوم حاضرٌ، وليس بغير حاضر، فالغيبة مقابل الظهور لا مقابل الحضور. ما رأيكم بهذا الكلام؟ (ناصر، السعودية).
أولاً: إنّ القول بأنّ فكرة البطون تفتح على فكرة تعدّد القراءات صحيح، لكنّه يمكن فهمها في ضوء أحد تطبيقات نظريّة تعدّد القراءات الدينية، وهو التعدّد الطولي، وليس كلّ تطبيقاتها، فلو قال شخصٌ بتعدّد القراءات وتصحيحها ولو كانت مختلفةً بالتباين التام أو بالتباين الجزئي (عموم وخصوص من وجه) فإنّ فكرة البطون لا تصحّح القراءات كلّها، لأنّها لا تصحّح المتباين، بل تصحّح القراءات التي تختلف فيما بينها في السطح والعمق فقط.
ثانياً: إنّ فكرة بطون القرآن لا تختصّ بالشيعة كما هي تهمة السلفيّة لهم، بل تشمل الكثير من متصوّفة وفلاسفة ومتكلّمي أهل السنّة وسائر المذاهب أيضاً عبر التاريخ، فالقول بكونها من خصائص المذهب الإمامي لا يلاحظ المشهد التاريخي المتنوّع في هذا الموضوع عند المسلمين.
ثالثاً: أمّا الحاجة العملية للإمام عليه السلام:
أ ـ فإن قُصد أنّ ما بأيدينا من نصوص لا يكفي؛ لذهاب كثيرٍ منه عبر التاريخ، أو أنّ فهومنا لا تكفي؛ لوجود كثير من مفاهيم الدين التي لا نعرفها بعدُ أو ضاعت عبر التاريخ والتباساته.. فهذا صحيح؛ فإنّ فهم الإمام عليه السلام أفضل من فهمنا، ونحن في كلّ يوم بحاجة إلى فهم الإنسان المعصوم؛ لأنّه أفضل الفهم وأشمله وأرقاه.
ب ـ وإن قصد أنّ الإمام يدعو للعلماء، وقد يتدخّل أحياناً في بعض الظروف، فهذا شيء معقول جدّاً، ويحتاج ـ لإثبات هذه الجزئية هنا أو هناك ـ إلى دليل موردي.
ج ـ وأمّا إذا قُصد الاتصال المباشر الدائم من قبل الإمام بالعلماء، وأنّه عليه السلام هو الذي يحرّك المسار العام لحركة تفكيرهم واجتهاداتهم ومواقفهم وقراراتهم عبر العصور ـ كما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين في رأي معروفٍ له، يرى فيه أنّ العالم اليوم يُدار من قبل الإمام إدارةً سياسية وأمنية واقتصادية وغير ذلك ـ إذا قُصد هذا المعنى، فهو ما لم أرَ عليه بذهني القاصر دليلاً مقبولاً، إذا استبعدنا نظريّة الولاية التكوينية بمعنى الواسطة في الفيض، فلو أراد تقديم مفهوم جديد يتخطّى هذا المفهوم (الولاية التكوينية)، فلم أرَ دليلاً مقنعاً على كلامه من عقلٍ أو كتابٍ أو سنّةٍ، ومن الجيّد أن نرى الأدلّة العقليّة والقرآنية والحديثية على هذا الادّعاء. فكون الإمام موجوداً، وكونه يطّلع على أحوال الشيعة، وكونه يدعو لهم، وكونه قد يتدخّل في بعض المواضع للضرورة، وكونه يدير العالم بالولاية التكوينية العامّة، هذه كلّها مفاهيم تختلف عن المفهوم الذي يطرحه بعض المعاصرين، والذي سبق له أن ألقاه في بعض محاضراته في مدينة قم، وهو أنّ العالم يُدار اليوم من قبل الإمام، وكأنّ الإمام لديه جهازٌ أمني وسياسي وفكري وثقافي يتحرّك في العالم ليؤثر على الأوضاع الماليّة والفكرية والسياسية والاجتماعيّة بما قدّره الله تعالى. إنّ هذه الفرضيّة لا أجد دليلاً عليها، ومن الجيّد أن يُسأل هؤلاء العلماء الكرام عن دليل علمي مقنع على ذلك.
رابعاً: إنّ فكرة الغيبة وأنّها تقع في مقابل الظهور لا في مقابل الحضور، بحيث نستنتج من هذه الفكرة أنّه حاضر، لكن نحن لا نرى حضوره.. هذه الفكرة لا تؤيّد الطرح الذي يقدّمه هؤلاء العلماء الكرام؛ لأنّ الحضور له معنيان: أحدهما الوجود في مقابل العدم، ومن الواضح أنّ الغيبة لا تقابل الوجود في المفهوم الكلامي الإمامي، إذ لا يقال بأنّ الإمام غائب، أي أنّه معدوم، والإمامية لا تؤمن بهذا. وثانيهما: الظهور في فضاء خاصّ، فأنت عندما تقول بأنّ الأئمة كانوا حاضرين، فهذا معناه ما هو في مقابل كونهم غير حاضرين في المشهد الظاهري، فاليوم أنت تقول بأنّ زيداً حاضر في الحياة السياسية، والمقصود أنّ له فعالية معيّنة وأنّ له دوره، في مقابل غيابه، والذي لا يعني عدم وجوده في لوح الواقع، بل يعني عدم الفعّالية والتأثير. وعليه فعندما نقول بأنّ الإمام غائب فهذا لا يعني أنّه معدوم، لكنّه يتحمّل معنى أنّه موجود لكنّه لا فعاليّة له بالنسبة للناس، وهذا هو الذي يفهمه الشيعة من الكلمة، فغيبة الإمام أي أنّ نشاطه مجمّد، فهذا مثل قولنا اليوم بأنّ الإمام موسى الصدر غائب، فالغياب هنا لا يقصد منه أنّ له فعالية غير ظاهرة لنا، بل هو يعني أنّه فقد فعاليته وغاب عن المشهد رغم أنّه قد يكون موجوداً مثلاً وغير ميّت. وهنا تقول: غاب السياسي الفلاني عن الحياة السياسية تارةً بمعنى مات، وأخرى بمعنى اعتزل، أو غاب المفكّر الفلاني تارةً بمعنى مات، وأخرى بمعنى أنّه لم يعد له حضور وتأثير وظهور فكري في الحياة العلميّة، وهذا ينتج لنا أنّ مفردات الحضور والغيبة والظهور لا تصبّ بالضرورة لصالح الفكرة التي يثيرها هذا العالم؛ لأنّ ظهوره كما يعني أنّه كان قبل ذلك موجوداً وفاعلاً لكن في الخفاء، كذلك يصحّ في اللغة والعرف أن يعني أنه كان موجوداً لكن كان غائباً لا فعاليّة له، فلا مرجّح لأحد المعنيين على الآخر، والقدر المتيقّن منهما هو الثاني، وهو المعنى المشهور.