السؤال: قرأت للعلامة الشيخ …. في بعض بحوثه المعنيّة بالفقه الإسلامي والاجتهاد الشرعي أنّ إرجاع الفقيه بعض الأمور عند الشك، إلى أصل العدم، هو مما تأثر به الفقه من الفلسفة؛ لأنّ أصل العدم يكون في الأمور التكوينية، وليس في التشريعيّات والاعتباريّات. وحيث إنّ الفقهاء كثيراً ما يُرجعون الأمور إلى الأصول النافية وإلى الاستصحاب وما إلى ذلك، وأخال حتى في القانون الوضعي يتمّ الإرجاع إلى أصل البراءة حتى تثبت الإدانة، أو كما يقال: المتهم بريء حتى تثبت إدانته وهكذ. فهذا معناه ـ لو صحّ رأي هذا العالِم الجليل ـ أنّنا سنواجه مشكلة كبيرة. والحلّ من وجهة نظره لهذه المشكلة هو الرجوع إلى الإطلاقات والعمومات إن وجدت، دون أن يشير إلى الحلّ عند فقدان العمومات والمطلقات. ما هو تعليقكم على هذا الكلام؟
الجواب: لم يتضح لي كيف تأثر الفقه والأصول بالفلسفة في هذه المسألة، وما هو وجه تخصيصها بالتكوينيات بالمعنى الذي يريده هذا الفقيه العلامة. بل أعتقد أنها مسألة عقلائية وعرفية وعقليّة ووجدانية أيضاً؛ لهذا لا يبدو لي هذا الكلام صحيحاً؛ فإنّ الأصول العدمية أمورٌ معتمدة ـ وبكثرة ـ حتى في القوانين الوضعيّة، فلو تأملنا طريقة تفكير القضاة أو فقهاء القانون فهم يحملون فكرة الأصل العدمي، حتى لو لم يعبّروا عنها بهذه التعابير. وربما كان قصد المستشكل هو كثرة حضور الأصول العملية والعدمية في الاجتهاد، على حساب الأمارات والأدلّة المحرِزة؛ فإنّ العلماء لهم طريقان في الاجتهاد من حيث الأسلوب: الطريق الأول هو الشروع من الأصول العدميّة والعمليّة وتحقيقها، ولهذا يبدؤون مما يسمّونه بــ (تأسيس الأصل في المسألة)، ثم الرجوع بعد ذلك إلى الأدلّة المحرزة، فإن عثروا فيها على شيء على خلاف الأصول، عملوا به، وإلا رجعوا إلى مقتضى القاعدة التي أصّلتها الأصول العملية والعدميّة. وأمّا الطريق الثاني فهو الذي مال إليه السيد حسين البروجردي، وأميل إليه شخصيّاً، وهو الشروع من الأدلّة المحرزة، أي من نصوص الكتاب والسنّة والعقل والبناءات المتشرّعية والعقلائيّة، فإن لم نعثر على شيء، فحينئذٍ تصل النوبة إلى الأصول. والطريقة الثانية تقلّل من حضور فكرة الأصول في الاجتهاد عمليّاً لا نظريّاً؛ لأنّ الطريقة الأولى تفرض علينا البحث في مقتضى الأصل في كلّ مسألةٍ فقهيّة وأصوليّة تقريباً، مع أنّه في كثير من الأحيان لا نحتاج إلى الأصل بعد توفّر الدليل، فيكون البحث في الأصل تطويلاً نظريّاً تجريديّاً زائداً للمسافة واستهلاكاً للوقت بلا ضرورة.
وأمّا كلامه في ضرورة الرجوع إلى العمومات، فهو صحيح، لكنّ الفقهاء لا يرجعون إلى أصل العدم عند وجود العمومات؛ لأنّ الدليل المحرز لا يختصّ بالأدلّة الخاصّة، بل يشمل عندهم العمومات والمطلقات أيضاً. نعم قد يشتبهون في التطبيقات، فيغيب عنهم العموم، فيرجعون إلى الأصول العدمية. ولا أظنّ أنّه يوجد أيّ دليل تاريخي على مسألة انتقال هذه الفكرة من الفلسفة إلى الفقه والأصول؛ فإنّ الأصول العدمية فكرة موجودة منذ القرون الهجريّة الأولى، ومجرّد وجود كلمة (العدم) فيها لا يعني كونها فلسفيّة، كما هو واضح؛ لأنّ العلماء اللاحقين كثيراً ما صاغوا منظومات كانت موجودة قبلهم بصياغات متناسبة مع طرائق تفكيرهم ونظام اصطلاحاتهم في القرون اللاحقة، وقد وقع كثيرون في خلط والتباس في هذا الموضوع الذي من أبرز أمثلته مسألة حجيّة السنّة الشريفة التي قيل بأنّ الإمام الشافعي قد أسّسها، وقد تعرّضتُ لذلك بالتفصيل في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم). وأشير أخيراً إلى أنّ مسألة اقتباس أمور من الفلسفة ليست خطأ على إطلاقها.