السؤال: الشيخ اﻷستاذ، تحيّة طيّبة.. يتحدّث البعض عن تحوّلات معرفيّة عند السيّد باقر الصدر رحمه الله في رحلته من كتابه (فلسفتنا)، إلى كتابه (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، فما صحّة هذا الحديث؟ (رائد الصدر، المملكة العربية السعودية).
الجواب: هذا الكلام صحيح، فقد نهج السيد محمّد باقر الصدر في (فلسفتنا) منهج المدرسة العقلية الإسلامية المعروفة، ولم يكن له هناك ذاك المزاج الاستقرائي الذي شهدناه له فيما بعد، وقد عدل في (الأسس المنطقيّة للاستقراء) عن هذا المنهج، لا بمعنى التباين التام بين المنهجين أو كونه أعرض تماماً عن منطق أرسطو أو الفلسفة العقليّة، بل هو يشترك معهما، غايته استقلّ بنظريّة أخرى في تفسير المساحة الأكبر من المعرفة الإنسانيّة. وهذا واضح لكلّ من عاين دراساته في (فلسفتنا) و (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، وكذلك بحوثه في (محاضرات تأسيسيّة) إلى جانب دوراته الأصوليّة المعروفة، وكتابه حول المهدوية.
بل إنّ السيد الصدر نفسه يصرّح بذلك حين يقول في (الأسس المنطقيّة للاستقراء: 20) ما نصّه: (.. ونحن في هذا الكتاب، إذ نحاول إعادة بناء نظريّة المعرفة على أساسٍ معيّن، ودراسة نقاطها الأساسيّة في ضوء يختلف عمّا تقدّم في كتاب (فلسفتنا)، سوف نتّخذ من دراسة الدليل الاستقرائي، ومعالجة تلك الثغرة فيه أساساً لمحاولتنا هذه).
ويقول في بحوثه الأصوليّة عند تعرّضه لقضيّة المعرفة بالواقع الموضوعي، وهي مفصل رئيس في النظرية المعرفيّة: (… الإحساس بالواقع الموضوعي خارج عالم النفس، كإحساسك بالسرير الذي تنام عليه وصديقك الذي تجلس عنده وحرمك الذي تسكن إليها، وهذا هو الذي لا يتعلّق إحساسنا به مباشرةً، فكيف يمكن إثبات واقعيّته من مجرّد انطباع حاصل في النفس أو الذهن؟ وكيف نثبت مطابقة ذلك الانطباق للخارج؟ وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة. والاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا في حلّها أنّ المحسوسات قضايا أوّلية وإن كانت المسألة غير معنونة بهذا الشكل، وإنّما عنونت كذلك عند فلاسفة الغرب، وقد ظهر لدى بعض المحدثين عندنا أنّ معرفتنا بالحسّيات لا يمكن أن تكون أوّلية؛ لوقوع الخطأ فيها، مع أنّه لا خطأ في الأوّليات، ولكنه عاد وزعم أنّ معرفتنا الحسيّة بالواقع الخارجي إجمالاً أوّلية، وإن كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك، فكان هذا اتجاه يفصّل في المعرفة الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسيّة. ونحن في كتاب (فلسفتنا) حاولنا إرجاع المعرفة الحسيّة إلى معارف مستنبطة بقانون العلّية؛ لأنّ الصورة الحسيّة حادثة، لابدّ لها من علّة، وقانون العلّية قضيّة أوّلية أو مستنبطة من قضيّة أولية. وفي قبال هذه الاتجاهات الثلاثة المثاليّون الذين أنكروا الواقع الموضوعي رأساً. وكلّ هذه الاتجاهات الأربعة التي تذبذب الفكر الفلسفي بينها غير صحيحة، وإنّما الصحيح ـ بناءً على ما اكتشفناه من (الأسس المنطقية للاستقراء) ـ أنّ معرفتنا بالواقع الموضوعي جملةً وتفصيلاً في المدركات الحسيّة قائمة على أساس حساب الاحتمال الذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقلٍ رزقه اللَّه له، سمّيناه بالعقل الثالث قبال العقلين الأوّل والثاني..) (بحوث في علم الأصول: 131 ـ 132، وانظر أيضاً تقرير الشيخ عبد الساتر 8: 342 ـ 343).