• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
الاجتماعية والأخلاقية التاريخ والسيرة الفقهية والشرعية الفكرية والثقافية الفلسفية والكلامية القرآنية والحديثية
# العنوان تاريخ النشر التعليقات الزائرين
167 هل صحيح أنّ نسل السيدة الزهراء لا تأكل لحومهم السباع؟ 2014-11-15 2 16493

هل صحيح أنّ نسل السيدة الزهراء لا تأكل لحومهم السباع؟

السؤال: جاء في رواية نقلها العلامة المجلسي أنّه ظهرت في أيام الخليفة المتوكّل العباسي امرأة شابّة ادّعت بأنّها زينب، ابنة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فوصل خبرها إلى الخليفة المتوكّل، فأمر بإحضارها إليه، فاُحضرت، فقال لها: أنت امرأة شابّة وقد مضى على زينب حتى الآن سنين عديدة، ما يقارب المائة و التسعين سنة. قالت له: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مسح على رأسي وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي كلّما بلغ عمري أربعين سنة. فبقي المتوكّل متحيّراً لا يعرف ماذا يقول لها، فقال له وزيره: يا مولاي، أحضر مشايخ آل ابن أبي طالب وولد العباس بن عبد المطلب وقريش وأخبرهم بموضوعها؛ لعلّنا نجد الحلّ لديهم. ففعل المتوكّل ما أشار عليه وزيره، فحضروا جميعاً وقالوا لها: أيّتها المرأة، إنّ زينب ابنة علي ـ عليهما السلام ـ ماتت في سنة أربعة وستين من الهجرة. قالت المرأة: هذا كذب، فإنّ أمري كان مخفيّاً عن الجميع فلم يعرف أحد بحياتي و بموتي. فسكت الجميع، فقال لهم المتوكّل: إنّ هذه المرأة صادقة، أحضروا لي الدليل على كذبها. فقال له شيخٌ من مشايخ آل أبي طالب: يا مولاي، أحضر لها الإمام الهادي ـ عليه السلام ـ فهو لديه الدليل على كذب هذه المرأة. فبعث إليه فحضر الإمام عليه السلام، فأخبره المتوكّل بخبر المرأة وما تدّعيه، فقال له الإمام عليه السلام: كذبت هذه المرأة؛ فإنّ زينب ابنة علي عليهما السلام ماتت سنة أربعة وستين من الهجرة. فقال له المتوكّل: إنّ هؤلاء الناس قالوا مثل قولك وكذّبتهم، ولكنّنا نحتاج إلى دليل لبين كذبها. فقال الإمام علي الهادي عليه السلام: نعم، إنّ الدليل على كذبها موجود عندي. قال المتوكّل: ما هو؟ قال الإمام عليه السلام: إنّ كلّ من كانت جدّته فاطمة الزهراء عليها السلام، فلحمه محرّم على السباع، فأنزلها إلى السباع، فإن كانت من ولد فاطمة فلا تؤذيها السباع. فالتفت المتوكّل إلى المرأة وقال لها: ما تقولين بهذا الدليل؟ فقالت له: إنّه يريد قتلي، أنا لن أنزل.. لا. فالتفت المتوكّل نحو الإمام عليه السلام: لم لا تنزل أنت إلى بئر الأسود؟ وكان هنالك بئرٌ كبير مملوء بعدد من الأسود في داخل القصر… فقال له الإمام علي الهادي: سأفعل ذلك. ففرح المتوكّل فرحاً شديداً وتصوّر بأنّ الخلاص من الإمام عليه السلام قد اقترب، فأحضروا السلّم إلى الإمام عليه السلام ووضعوه في داخل البئر، فنزل الإمام عليه السلام إلى الأسود وجلس، فاتجهت الأسود إليه ورمت بأنفسها بين يديه، فجعل الإمام عليه السلام يمسح على رؤوس الأسود… ثمّ أشار الإمام عليه السلام إلى الأسود بأن تبتعد عنه، فابتعدت عنه طائعةً لأمره، فتعجّب الناس من هذه المعجزة، وبدأت التكبيرات والصلوات تعلو في داخل القصر.. عندما رأى المتوكّل الإمام عليه السلام جالساً بين الأسود غضب غضباً شديداً ومن شدّة غضبه لم يعرف ماذا يفعل، لكنّ وزيره كان من الماكرين، فاتجه إليه وقال له: أسرع إلى إخراجه قبل أن تنتشر هذه المعجزة بين الناس، فطلب المتوكّل من الإمام أن يخرج، فاتجه الإمام عليه السلام إلى السلّم فاجتمعت حوله الأسود تتمسّح بثيابه، فأشار إليها بالرجوع فرجعت. فصعد الإمام عليه السلام وقال: كلّ من يقول أنّه من ولد فاطمة فليجلس بين هذه الأسود. فالتفت المتوكّل للمرأة، وقال لها: انزلي، قالت له: الله.. الله.. إنّني كاذبة، فأنا لست زينب كما قلت، أنا فلانة بنت فلان، سامحني يا مولاي (بحار الأنوار 50: 149 وما بعد). ما مدى صحّة هذه الرواية شيخنا؟ فقد نقلها أحد المراجع المعاصرين ـ وهو الشيخ.. ـ لأحد الأشخاص متبنّياً لها، وقال له بأنّ الهاشمي السيّد لا تأكله السباع (ياسر).

 

الجواب: هذا الخبر الذي نقلتموه بشيءٍ من التصرّف وليس بنصّه الحرفي، موجودٌ في بحار الأنوار بالفعل، وقد نقله المجلسي (1111هـ) عن الراوندي (573هـ) في كتاب (الخرائج والجرائح 1: 404 ـ 406)، وثمّة اختلافات في بعض التفاصيل، والراوندي نقل هذا الخبر عن أبي هاشم الجعفري (261هـ). ورغم الفاصل الزمني بين الراوندي والجعفري بقرابة ثلاثة قرون، لكنّ الراوندي لم يشرح لنا كيف حصل على هذا الخبر الذي نسبه إلى الجعفري. وهكذا نجد أنّ ابن حمزة الطوسي (560هـ) ينقل هذه القصّة مع بعض الاختلافات في كتابه (الثاقب في المناقب: 545 ـ 546)، عن علي بن مهزيار دون أن يبيّن سنده إليه وبينهما قرابة الثلاثة قرون أيضاً. وأشار للقصّة أبو الصلاح الحلبي (447هـ) في كتابه (تقريب المعارف: 177)، دون أن يذكر التفاصيل أو المصدر أو السند. وقد نقل مجمل القصّة الإربلي (693هـ) في كتاب (كشف الغمّة 3: 188)، وابن شهر آشوب (588هـ) في (المناقب 3: 518) أيضاً.

وبمراجعة المصادر التاريخية والحديثية القديمة، نجد أنّ قصّةً شبيهة تُنسب إلى الإمام الرضا عليه السلام ـ وليس الإمام الهادي ـ في محضر المأمون العباسي (وليس المتوكّل العباسي)، فالقاضي التنّوخي (327 ـ 384هـ) الذي نقل مجموعة قصص وكرامات لعدد من الأولياء، ومنها كراماتٍ لهم مع السباع والأسود، ينقل في كتابه (الفرج بعد الشدّة 2: 306)، فيقول: (..قال مؤلّف الكتاب: فقلت أنا لأبي القاسم الأعلم: وما خبر زينب الكذابة، فإنّي ما سمعته؟ قال: هذا خبر مشهور عند الشيعة، يروى بإسنادٍ لهم لا أحفظه أنّ امرأةً يقال لها: زينب، ادّعت أنّها علويّة، فجيء بها إلى علي بن موسى الرضا رضي الله عنهم، فدفع نسبتها، فخاطبته بكلامٍ دفعت به نسبه ونسبته إلى مثل ما نسبها له من الادّعاء، وكان ذلك بحضرة الخليفة. فقال الرضا: أخرج أنا وهذه إلى بركة السباع، فإنّي رويتُ عن آبائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ لحوم ولد فاطمة رضي الله عنها محرّمة على أكل السباع، فمن أكلته السباع فهو دعيّ. فقالت المرأة: لا أرضى بهذا، ودفعت الخبر فأجبرها السلطان على ذلك. فقالت: فلينزل هو قبلي، فنزل الرضا رضي الله عنه بركة السباع بمحضر من خلقٍ عظيم، فلما رأته السباع أقعت على أذنابها، فدنا منها ولم يزل يمسح رأس كلّ واحد منها ويمرّ بيده إلى ذنبه والسبع يبصبص له، حتى أتى على آخرها ثم ولّى، وكرهت المرأة النزول وأبته، فأجبرت على ذلك فحين نزلت وثب عليها بعض السباع فافترسها ومزّقها، فعُرفت بزينب الكذّابة). وهذا الخبر رغم أنّه لم يذكر اسم المأمون العباسي إلا أنّ ابن حمزة الطوسي (560هـ)، نقله أيضاً في كتابه (الثاقب في المناقب: 546 ـ 547) عن الحافظ النيسابوري في كتاب المفاخر مع بعض الاختلافات في القصّة مسمّياً المأمون العباسي، ومشيراً إلى إمكان وقوع حادثتين: واحدة مع الإمام الهادي والأخرى مع الإمام الرضا.

كما وقد نقل الروايتين المشار إليهما عن بعض هذه المصادر أعلاه السيد هاشم البحراني (1107هـ) في كتابه (مدينة المعاجز 7: 240 ـ 242، 475 ـ 477)، دون أن يأتي بمصادر جديدة. ونقل هذه القصّة القندوزي الحنفي عن المؤرّخ المسعودي، وبالفعل فقد ذكرها المسعودي (346هـ) بشكل مختصر ومشير في (مروج الذهب 4: 86)، وقال هناك بأنّه ذكرها في كتابه (أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران)، وقد بحثت فيما توفّر عندي من كتاب أخبار الزمان فلم أجد هذه القصّة فيه، إذ المتوفّر من هذا الكتاب اليوم جزء واحد متعلّق بالأمم الغابرة، وليس فيه شيء يذكر من أحداث الزمن الإسلامي، وهو كتاب مليء بذكر غرائب الوقائع في الأمم الماضية وعجائب الأحداث، وهناك من يرى ـ مثل الدكتور صائب عبد الحميد في دراسته حول المسعودي في العدد التاسع عشر من مجلة المنهاج البيروتيّة ـ أنّه من أوائل كتبه التاريخية وأنّه يبلغ ثلاثين مجلّداً. وقد ترجم ابن حجر العسقلاني زينب الكذّابة هذه، ونقل مضمون القصّة عن المسعودي، وذلك في كتاب (لسان الميزان 2: 513 ـ 514).

يشار إلى أنّ في بعض المصادر المتقدّمة أنّ المدّعية ادّعت أنّها زينب بنت الحسين بن علي، وليست زينب بنت علي بن أبي طالب.

وعليه ـ ووفقاً لمراجعتي المتواضعة للمصادر والمراجع الأساسيّة التي نقلت الحادثة ـ إذا أردنا رصد المصادر الأساسيّة للقصّة، فهي المسعودي (346هـ) في مروج الذهب (وأخبار الزمان)، يليه التنّوخي (384هـ) في الفرج بعد الشدّة، ويليهما الحافظ النيسابوري (405هـ) فيما نقل عنه والحلبي (447هـ) في تقريب المعارف، ثم تأتي سائر المصادر الأبعد زمناً بثلاثة قرون وأكثر من ذلك فيما بعد.

ولو أخذنا الحلبي والتنّوخي فلا نجد ذكراً لمصدر هذه المعلومة الاستثنائيّة عندهما، وكذلك المسعودي الذي يعدّ نقله الأقدم في هذا المجال، وهو ينقله، ولا نعرف مصدر معلوماته فيه، وتفصله عن الحدث قرابة نصف قرن في الحدّ الأدنى (حيث بويع المتوكّل عام 232هـ، وقتل عام 247هـ) فيما كانت وفاة المسعودي عام (346هـ)، وولادته في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وربما نَقَلَ الخبرَ فيما شاع بين الناس أو بين بعض النقلة للأخبار، كما هي طريقة الكثير من المحدّثين والمؤرّخين، فمن حيث التسلسل لا يبدو الخبر معلوم المصدر الأصليّ لشخص شاهد الحادثة، وبعض الروايات تفيد أنّه كان هناك خلق كثير شاهدوا الحدث، فمن الذي أخبر المسعودي أو غيره بهذا الخبر ممّن شاهد الواقعة الاستثنائيّة هذه؟! هذا غير معلوم، فضلاً عن الكتب المتأخّرة التي لا نعلم عن مصادرها شيئاً كما بيّنا.

لكنّ نقل المسعودي يحظى بأهميّة، فالرجل مؤرّخ مقبول ـ نعم، هو منسوب للمعتزلة والشيعة، بما يجعل مثل هذه الأخبار منه مشكّكاً فيها من قبل بعض غير الشيعة، وإن نسب إلى الشافعيّة أيضاً ـ وهذا يعزّز احتمال صدق الواقعة، لاسيما مع تأييد ذلك بنقل التنوخي بأنّ الخبر مشهور بين الشيعة، مشيراً إلى أنّ للخبر إسناداً غير محفوظ، كما أسلفنا. والتنّوخي مختلف فيه من حيث كونه شيعيّاً أو من أهل السنّة، حيث عدّه العلامة الحلّي في إجازته لبني زهرة (انظر ذكره في إجازة بني زهرة في: بحار الأنوار 104: 136) من أساتذة الشيخ الطوسي السنّة.

من هنا فمشاكل هذا الخبر هي:

1 ـ عدم تحديد الناقل الأصلي للحادثة ومن شهدها، وفقدان مختلف المصادر للمصدر الأصلي الذي رأى الحادثة، أي عدم وجود سند بالمعنى الحديثي (الحديث في كلّ مصادره مرسل)، مع قلّة المصادر التي نقلته، والعادة قاضية بأنّ الأحداث الغريبة يحتاج إثباتها إلى تراكم أكبر في المعطيات لتحصيل القناعة التاريخية بها، كما ذكر ذلك المؤرّخون والمحدّثون والأصوليّون معاً، والحال أنّه ندر نقل المؤرّخين والمحدّثين لهذه الحادثة التي تعدّ كرامةً وقعت في دار الخليفة حيث كُتُب التاريخ تهتم عادةً بالتاريخ السلطاني، مع نقلهم الكثير من كرامات في كتبهم للأئمّة ولغيرهم، بل لم ينقلها جملة من مؤرّخي الشيعة أيضاً ومحدّثيهم، ولو وقعت مع الإمام الرضا لكان من العادة أن ينقلها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام، ومع ذلك لم ينقلها رحمه الله. واشتهار الخبر ـ بحسب نقل التنّوخي ـ إذا صحّ فهو لا يكفي، فكم من مشهورٍ لا أصل له.

2 ـ اضطراب النقل في الحادثة ما بين المتوكّل والهادي من جهة والرضا والمأمون من جهة ثانية، ومن البعيد جداً أن تظهر امرأتان تدّعيان نفس الدعوى وأنّهما زينب العلوية، ويؤتى بهما إلى الخليفة وتقع وقائع متشابهة، فلو كان خبر الرضا والمأمون قد اشتهر فكيف يمكن لامرأة أن تدّعي في عصر المتوكّل شيئاً شبيهاً بذلك، والمدّة الفاصلة تقارب الثلاثة عقود من الزمان فقط؟! إنّ هذا ممكن عقلاً لكنّه ضعيف وقوعاً. وعليه فأبعد ما يمكن قوله هو قوع الاشتباه عند بعض الناقلين في اسم الإمام والخليفة، فإذا جاز هذا الاشتباه منهم جاز أن يشتبهوا في بعض التفاصيل، وإذا كانت الحادثة في عصر الإمام الرضا صارت أبعد زماناً عن المصادر التي نقلتها لنا. ويشار أيضاً إلى أنّ إحدى الروايات قالت بأنّها أقرّت واعترفت، وأنّ والدة الخليفة أخذتها، فيما رواية ثانية من روايات هذه القصّة تقول بأنّ الخليفة رماها بعد ذلك للأسود فقتلتها، وهذا شيء من التناقض إن لم ندّع تعدّد الواقعة.

3 ـ لعلّ هذه القصّة يمكن فهمها في عصر المأمون العباسي، لكنّ فهمها في عصر المتوكّل يبدو بعيداً نسبيّاً، فقد عرف المتوكّل تاريخياً بالبطش الرهيب بالشيعة، فكيف يا ترى صبر على هذه المرأة واستدعى وجوه قريش والطالبيين وأمهلها، وتعامل معها بما يشبه طريقة المأمون العباسي؟! كما أنّ الرواية قالت بأنّ الإمام أراد أن يُفحمها، فقال لها بأنّ أولاد فاطمة لا تأكلهم السباع، فلو فرضنا أنّ هذه المرأة كانت من أولاد فاطمة لكنها لم تكن زينب بنت علي أو بنت الحسين فسوف لن يأكل الأسد لحمها، وسيثبت أنّها صادقة بحسب سياقات القصّة، مع أنّ هذا غير صحيح؛ ما لم نقل بأنّ الإمام يعرف بواقع حالها وأنّها ليست فاطميّةً أصلاً. هذا فضلاً عن أنّه لو ألقت هذه المرأة نفسها لقتلها السبع، فيكون الإمام قد أفضى بفعله إلى قتلها ولو بمقدّمة غير قريبة، مع أنّ ادّعائها لا يقتضي القتل، إلا إذا قيل بعلمه بالغيب بأنّها لن تنزل مثلاً. كما أنّ من الملفت أنّ هذه القصّة رغم هول ما وقع فيها لم ينقل لنا أحد فيها اسم تلك المرأة التي ادّعت أنّها زينب، مع أنّ هذا الأمر ممّا يُنقل عادةً، حيث يتداول أسماء المدّعين للنبوّة أو الإمامة أو غير ذلك.

4 ـ دعونا نعالج بمنطقية المفهوم الذي قدّمته هذه الرواية التاريخية، إنّه يقول بأنّ لحوم ولد السيدة فاطمة محرّمة على السباع:

أ ـ فإذا قصد من ولد فاطمة خصوص الأئمّة ومعهم مثل السيدة زينب عليها السلام ـ وهذا الاحتمال غير ظاهر من الرواية التاريخيّة ـ فلا بأس، رغم أنّني لا أعرف كيف لا تأكل السباع لحومهم، لكنّ الخيل تشارك في قتالهم، بل وتطأ أجسادهم في كربلاء؟! إذا صحّت القصّة الواردة في أكثر من ثمانية مصادر منها تاريخ الطبري، وبعضهم يناقش في رضّ الخيل للأجساد؛ من حيث إنّ الخيول من عادتها القفز فوق أيّ جسم تمرّ به لا المشي عليه فإنّه قد يوقعها، وقد نجد من رَدَّ هذا الإشكال بأنّها كانت خيولاً خاصّة مدرّبة، أو أنّ سحق الخيول للأجساد لم يكن بمعنى المرور عليها، وإنّما بمعنى الوقوف ورفع الرجليين الأماميّتين للخيل لوضعها على الجسد وهكذا، وأجاب بعضهم بأنّ هذا يكون بتعصيب عيني الخيل أو بجرّ رأسه يميناً أو شمالاً حتى لا يرى أمامه فلا يدري كيف يسير فيطأ الأجساد، ولهذا ورد في قصيدة الحميري تعبير: الجياد الأعوجيّة بهذا المعنى (انظر القصيدة في أعيان الشيعة 3: 429)، وإن نقل بعض المؤرّخين وكتّاب السيرة أنّ تسمية الأعوجيّة إنّما هي نسبة لخيلٍ كريمٍ كان لإسماعيل ذي الأعوج المعروف بابن همادي أو نسبةً لداحس بن ذي العقال بن أعوج (انظر: تاريخ الطبري 2: 31؛ والسهيلي، الروض الأنف 1: 12، و2: 32)، كما ذكر بعضهم أنّ الأعوجيّة نسبةٌ لفرس بني هلال بن عامر من العرب في العصر الجاهلي، والتي كانت معوجّة القوائم وهي من كرام الخيل (انظر: الصفدي، الوافي بالوفيات 24: 94؛ والفراهيدي، العين 2: 158؛ وابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 180؛ وابن منظور، لسان العرب 2: 333).

كما أنّنا لا نجد القرآن الكريم يتحدّث في قصّة يوسف عن اعتراض يعقوب على ولده بأنّ الأنبياء لا يأكل لحومهم الذئب من السباع (ما لم يقل أحدٌ بأنّ هذا خاصّ بولد فاطمة ولا يشمل الأنبياء، أو يقول بأنّ القرآن سكت ولم ينفِ). بل لو كانت هذه من علامات الإمامة وأمثالها لكان يفترض أن تكون معياراً من معايير مدّعي الإمامة من النسل الفاطمي، ولم يعهد أنّ أحداً تحدّث عن كون ذلك معياراً رغم كثرة الاختلافات التي وقعت بين الشيعة منذ عصر الإمام الصادق عليه السلام، فلماذا لا نجد الشيعة تطالب مدّعي الإمامة بمثل هذا الأمر عند كلّ دعوى إذا كان الإمام لا تأكله السباع وبالتالي يحصل معهم ما حصل مع زينب الكذّابة هذه؟! ولماذا لا نجد هذا الأمر في طرق معرفة الإمام التي جاءت في الروايات وفي كلمات متكلّمي الشيعة عبر التاريخ؟! ألا يوهن ذلك من قيمة هذه الرواية هنا بدرجة معيّنة؟!

ب ـ وأمّا إذا قُصد مطلق الهاشمي الفاطمي ـ كما يُفهم من سياق الرواية في بعض مصادرها على الأقلّ، وكما فهمه المرجع الشيخ.. وفق نقلكم ـ فإنّ الأمر يصبح يسيراً أيضاً، إذ تسمح لنا الرواية باختبارها تجربيّاً بلا حاجة للتحليل النظري فقط، فلنأت ببعض الهاشميين الفاطميين (وليس كلّ هاشميّ فاطميّاً كما هو واضح) ونعرضهم على السباع (والكلب من السباع؛ لأنّ السبع هو الحيوان الذي له ناب أو الذي يعدو على غيره ويكون الناب والمخلب من علامات سبُعيّته برّيّاً كان أم طيراً) بطريقة يمكن حمايتهم من خلالها وضمان سلامتهم وتدارك أمرهم، ولنأخذ من ذلك عيّنات كثيرة لمن لا يُشكّ في نَسَبهم أبداً، فسوف نعرف هل مضمون هذه الدعوى صادق أم لا؟ فإذا تكرّرت التجربة وفشلت فسوف ينخفض معدّل الثقة بهذه الرواية التاريخيّة. بل إنّ الرواية تقول بأنّ السباع لا تأكل لحومهم ولم تقل بأنّها لا تقتلهم، وهذا معناه أنّه حتى لو كانوا موتى فإنّه لا يمكن أن تأكلهم السباع أو تقترب من لحومهم.. ألا يمكن اختبار هذا الأمر ـ بما يحفظ حرمة الموتى ـ لو كان لنا ثقةٌ به؟ بالتأكيد يمكن وهو سهلٌ وليس بعسير، ولو كان هذا الأمر صحيحاً لسمعنا أيضاً قصصاً عن أشخاص فاطميين يمرّون بجانب السباع أو الكلاب ولا تهجم عليهم بحيث يتميّزون بذلك عن سائر الناس! ولكان هذا أمراً شائعاً بين البشر اليوم وبين ظهرانيهم الآلاف من الفاطميين. ودائماً هي دعوتنا لاختبار النصوص الحديثية والتاريخية عبر التجربة عندما يمكن ذلك، كما في حالتنا، وطلب المساعدة من التجربة والعلوم الطبيعية اليقينيّة لفهم أو إثبات أو نفي حدث تاريخي أو مفهوم جاء في الحديث الشريف، وعدم ترك الأمر معلّقاً.

بل إنّني أسأل: هل يقبل الفقهاء بهذه الطريقة في تصحيح نسب أو إبطال نسب ومنهم المرجع الشيخ الجليل الذي نقلتم عنه؟! وهل يمكننا أن نطالب كلّ من يدّعي النسب الهاشمي بعرض نفسه على السباع كي نتأكّد من دعواه؟! وهل ذكر أحدٌ من فقهاء المسلمين بجميع مذاهبهم عبر التاريخ أنّ هذه الطريقة من طرق إثبات النسب الفاطمي أو نفيه؟ وأنّها من السُّبُل الشرعيّة في الإثبات والنفي؟! إنّ هذا يدلّ على أنّ الفقهاء لم يبالوا بمثل هذه الرواية التاريخيّة ولم يدرجوها ضمن مستنداتهم الشرعيّة في باب الأنساب، كما أنّ المحدّثين السنّة والشيعة لم يدرجوها في كتبهم الروائيّة ذات الطابع الفقهي في باب النسب، وهذا يفضي لمزيد توهينٍ لها تاريخيّاً.

ومن الواضح أنّ الرواية التاريخية لا تحدّد شيئاً سوى النسب لمنع أكل السباع للحوم، فحتى لو كان الفاطمي كافراً أو عاصياً فاسقاً فاجراً أو ناصبيّاً محارباً لله ورسوله فيفترض بحكم هذا النصّ ذلك، ما لم يأتنا ما يخصّص والمفروض عدم توفّر المخصّص، لاسيما وأنّ هذه المرأة كانت كاذبة مفترية، وأعطاها الإمام معياراً، وكان يمكن أن يصحّ. وبناء على مجمل ما تقدّم يصبح خيار التصديق بهذا الحدث ضعيفاً؛ لأنّ هذه المعطيات تتراكم للتقليل من الوثوق بوقوع الحادثة، وإن كان كلّ إشكال في نفسه قد لا يحسم الأمر، وقد قلنا مراراً بأنّ نقد المتن الحديثي أو التاريخي لا يُطلب منه إثبات استحالة المتن والمضمون، بل يكفيه توهينه بحدٍّ يصبح احتماله ضعيفاً.

إنّ هذا كلّه يدفعنا إمّا إلى القول بعدم صدقيّة هذه الرواية التاريخيّة وعدم وجود مثبت تاريخي لها، أو القول بأنّ شيئاً ما وقع وكرامةً ما حصلت لكنّ الرواة والنقلة أكثروا من الخطأ في نقل الواقعة، فقد تكون حصلت كرامة معيّنة للإمام الهادي أو الرضا ولكنّ الرواة ـ كما هي طريقة نقل العجائب والأمور غير المعتادة ـ أضافوا وأخطأوا في البيان، فولدت هذه القصّة بهذه التفاصيل، والراجح بنظري أنّ إثبات هذه القصّة غير يسير، وإن كان أصل وقوع كرامة بصرف النظر عن تفاصيل القصّة ليس بمستبعد. والعلم عند الله.

2 تعليق

  1. يقول انمار العامري:
    2017-03-06 16:35:38 الساعة 2017-03-06 16:35:38

    وفقك الله لكل خير …إجابة جميلة و وافية
    كم من مشهور لا اصل له

  2. يقول الحمود عبدالغفار:
    2018-08-06 04:19:14 الساعة 2018-08-06 04:19:14

    هذا الخبر يدل على ان الإمام اذا انقطع السبيل الى الوصول الى حقيقة المدعي فانه يستخدم الطرق الذكيه في جعل الخصم يقر على نفسه ولو باللجوؤ الى استعمال الكرامات ،

    ففي قضية اظهار حقيقة اي المدعين هو السيد والعبد قام الامام علي عليه السلام بجعل رأسيهما في حفيرتين في جدار وامر قمبر بضرب رأس العبد بلا تحديد ايهما العبد لكي يجعل العبد يقر بنفسه انه هو العبد .

    في هاتين القصتين دلاله على لجوؤ المعصوم لحيل ذكاء تجبر فيه الكذاب على الاعتراف .

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36827422       عدد زيارات اليوم : 7707