السؤال: يقول البعض بأنّ فكرة غيبة الإمام المهدي والظهور أثرت بالسلب على النشاط السياسي عند الشيعة الجعفريّة, وأنّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) هو الذي خلّص الجعفريّة من هذا الركود. ما هو موقف سماحتكم من هذا الرأي؟ وهل لي أن أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان صحيحاً، فهو لا يؤثر في صحّة الفكرة، إذ قد توجد أفكار سليمة ولها مردود سلبي قليل, كالقول بأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً يجعل البعض يسوّف ويؤجّل التوبة، ولكنّ هذا لا يضرّ بصحّة هذا القول؟ أرجو من سماحتكم توضيح القضيّة.
الجواب: إنّ فكرة الإمام المهدي ـ سواء قلنا بأنّه ولد أو سيولد، ومهما كان موقفنا من ظهوره وما بعد ظهوره ـ ليست لها أيّة علاقة بفكرة النهوض والركود والخمول والتكاسل، فهي لا تتنافى في حدّ ذاتها مع النهوض أبداً، إنّما الذي يربط القضيّة بالعقل التعطيلي السياسي في عصر الغيبة ـ إلى جانب أسباب تاريخية وظروف موضوعيّة ـ هو عنصران:
العنصر الأوّل: عنصر كلامي، وهو أنّ التعريف الذي ساد بين كثير من قدماء متكلّمي الشيعة الإماميّة لمفهوم الإمامة، كان يعني بأنّها رئاسة في الدين والدنيا، ولهذا تجدهم في استدلالاتهم على الإمامة وعلى العصمة مسكونين بالفكرة التي تقول بأنّه لا يمكن أن يكون إمام المسلمين غير معصوم أو غير منصوص عليه من الله تعالى، وفي تلك المرحلة من الاجتهاد الكلامي وعندما يغيب الإمام، فمن الطبيعي أن يشعر العقل الشيعي بأنّه من غير الممكن أخذ دور الإمام في إدارة المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة سياسياً واجتماعيّاً وغير ذلك؛ لأنّ ذلك سوف يعني شكلاً من أشكال التناقض بين النظرية وأدلّتها وبين الممارسة التي لحقت في عصر الغيبة، ومن هنا ظلّ العلماء محجمين عن تولّي المناصب التي كانت بنظرهم من مبرّرات فكرة ضرورة الإمامة المعصومة، فتركوا التصدّي للشؤون السياسية العامّة وإقامة الدولة وغير ذلك لما بعد ظهور الإمام؛ كون ذلك من وظائفه ومختصّاته ومبرّرات وجوده والحاجة إليه أساساً.
طبعاً، هذا العنصر تصاغر تدريجيّاً، لا سيّما بعد أن شهد مفهوم الإمامة تطوّراً نظريّاً مهمّاً في العصر الإخباري / الصدرائي (منذ القرن الحادي عشر الهجري)، دعمته بعض النصوص الحديثيّة الموجودة في الكتب الشيعيّة، فطغى على تعريف الإمامة المفهوم الوجودي، أكثر من المفهوم الاجتماعي والإداري والسياسي والديني، فلم تعد مبرّرات الإمامة تقف عند حدود الرئاسة في الدين والدنيا، بل تعدّتها لإدارة العالم التكويني وكون نفس وجود الإمام ضرورة لقيامة العالم تكوينياً وأنطولوجيّاً، وهذا التطوّر المهم جدّاً كان موجوداً سابقاً، لكنّ متكلّمي الشيعة لم يكونوا ينظرون إليه بنفس تلك الأولوية التي كانوا ينظرون من خلالها لقضيّة رئاسة الدين والدنيا كما يلاحظ ذلك من طبيعة أدلّتهم ولغتهم وبنياتهم التفكيريّة. والتطوّر الجديد هذا لا يعني كونه باطلاً لمجرّد أنّ القدماء كانوا يفعّلون ذلك الفهم الإداري للإمامة بشكل ناشط، لأنّ هذه القضية هي قضيّة اجتهادات كلاميّة وفلسفيّة قد يصيب فيها المتأخّر ويخطأ المتقدّم والعكس ممكن أيضاً. لكن على أيّة حال، كان هذا التطوّر في فهم مقولة الإمامة مساعداً كبيراً ـ في تقديري ـ في فسح المجال لاحقاً لمثل السيد الخميني في طرح مشروع إقامة الدولة دون شعور بالتناقض الكلامي مع نظريّة الإمامة، وهذا أمر مهم جدّاً من هذه الزاوية؛ لأنّ الإمامة ما دامت مفتوحةً على أفق واسع، فإنّ أخذ منصب الإدارة العامة السياسية والاجتماعية منها وبإذنها لن يكون مناقضاً لأصل ضرورتها بوصفها إمامةً معصومة تمثل مفهوم الإنسان الكامل بما له من امتدادات وجوديّة وإنسانيّة، فليلاحظ ذلك جيداً.
العنصر الثاني: وهو عنصر فقهي / حديثي مهم جدّاً، أعني مجموعة الاستنتاجات الفقهيّة التي تربط جملةً من الأحكام والوظائف بعصر ظهور الإمام دون غيبته، فالاجتهاد الشيعي ظهر فيه تيار قويّ بين الفقهاء منذ العصور السالفة يرى أنّ هناك مجموعة من التكاليف الشرعيّة تتعطّل في ظلّ عدم وجود الإمام المعصوم بالتحديد، وهذا التعطيل ناتج عن قراءة اجتهاديّة للنصوص الحديثيّة المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام، فإذا أخذنا مثلاً فكرة صلاة الجمعة أو الجهاد الابتدائي أو صلاة العيدين أو إقامة الحدود أو إقامة الدولة الدينية، فإنّ عدداً لا بأس به من الفقهاء يرون أنّ هذه الوظائف من مختصّات المعصوم، فعندما يكون حاضراً تشهد هذه الوظائف قيامتها، لا لأجل ذلك التحليل الكلامي هذه المرّة، بل لأنّ هناك في النصوص الحديثية الشيعية ما يفيد أنّ هذه القضايا لإمام المسلمين، وقد فهم مشهور فقهاء الشيعة من كلمة (الإمام) الواردة في هذه النصوص الإمامَ المعصوم لا غير، ولهذا ربطوا وجوب صلاة العيدين بالإمام المعصوم؛ لأنّ الحديث قال بأنّه لا صلاة في العيدين إلا مع إمام، ففهموا من الإمام الإمامَ المعصومَ، وقد دعمتهم في هذا المناخ مجموعة النصوص المعروفة التي تذمّ أصحاب الرايات في عصر الغيبة، حيث اعتبروا أنّ تولّي المناصب السياسية والاجتماعيّة شأنٌ مرفوض في عصر الغيبة الأمر الذي دعمت التحليلات الكلامية فيه هذه الأحاديث المنقولة.
إنّ من يأخذ بهذين العنصرين: الكلامي والفقهي، أو بأحدهما، سوف يفهم انتظارَ الإمام وعيشَ عصرِ غيبته على أنّه عصر تتجمّد فيه بعض الأحكام ذات الشأن العام، أمّا من يرفض هذين العنصرين أو يقبل ببعض المفردات الصغيرة في العنصر الثاني كصلاة العيدين مثلاً، فإنّه يعتبر أنّ التكاليف الشرعية ذات الطابع السياسي ما تزال نشطة تخاطبنا للعمل السياسي وإقامة الدولة، والفريق الأوّل قد يسمّي عمل الفريق الثاني تعدّياً على صلاحيات المعصوم الحصريّة، فيما يسمّي الفريق الثاني عمل الفريق الأوّل بمصطلح (الانتظار السلبي)، وعلى خلفيّة هذا المشهد تنقسم الاتجاهات، لكن لا بمعنى ترك كلّ الوظائف الشرعيّة، بل بمعنى تجميد بعض الوظائف ذات الطابع العام، وليس كلّ الوظائف العامّة، فالقضاء والفتوى من الشؤون العامّة التي يقبل بها في عصر الغيبة الكثير من الفقهاء الشيعة.
وعليه، فإذا اختار شخصٌ نهج القائلين بالتجميد، ووصفه آخرون بأنّ رؤيته تعطيليّة وغير نهضويّة وهي تدفع للركود، فإنّ هذا التوصيف لا يشمل أصل فكرة الإمامة والمهدويّة بقدر ما يشمل أحد أشكال فهمها وتفسيرها، ونقدُ أحد تفسيري مقولةٍ ما لا يعني نقد أصل المقولة، بل إنّما تنتقد المقولة بنقد كلّ تفاسيرها المحتملة، فما جاء في آخر كلامكم صحيح.
أمّا تعليقي على الموضوع، ففي العنصر الكلامي، أعتقد بأنّه حتى لو فشل الشيعة ـ على نحو الفرض ـ في إثبات ضرورة الإمامة، فهذا لا يعني بطلان نظرية الإمامة؛ لأنّ العمدة في هذه النظرية ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ هي النصوص التاريخية والدينية، فإذا ثبتت هذه النصوص لصالح نظرية الإمامة الشيعية، فسوف تثبت مقولة الإمامة، سواء نجحنا في إثبات ضرورتها أم لا، وإذا عجزت النصوص التاريخية والدينية عن إثبات الإمامة الشيعية فلن نستفيد شيئاً من إثبات ضرورتها التجريديّة، فكلمة الفصل في غالب الموارد هي لنصوص الإثبات لا للتحليلات العقليّة لمقولة الضرورة، وإن كانت مقولة الضرورة نافعة في بعض الموارد، لاسيما في السياقات الجدليّة والإقناعيّة، فالعنصر الكلامي المشار إليه أعلاه لا أجد ضرورةً للاستغراق فيه، حتى يترك تأثيراً على نشاطاتنا النهضوية والسياسية في عصر الغيبة، حتى لو لم نوسّع مفهوم الإمامة من السياق الإنساني إلى السياق الوجودي، حيث تكفينا الضرورة التاريخية الزمنية للإمامة بدل الضرورة العامّة الممتدّة بطبعها في الزمان والمكان.
وأمّا العنصر الفقهي، فهو يختلف تبعاً للاجتهادات الفقهيّة، وقناعتي الشخصيّة هي عدم وجود جهاد ابتدائي أساساً حتى نربطه بالمعصوم، وعدم ربط الكثير مما ربطوه بحضور المعصوم به سلام الله عليه، والتفصيل يراجع في البحوث الفقهية.
وأخيراً، لابد لي أن أشير إلى أنّ العلماء الذين رفضوا النشاط السياسي في عصر الغيبة وتأسيس دولة لا يقولون بالضرورة بالعزلة التامّة عن الحياة؛ لأنّ عدم العمل لتأسيس دولة ورفع راية وإقامة العقوبات لا يعني عدم العمل السياسي المعارض الهادف لتصويب عمل الحكام انطلاقاً من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه نقطة ينبغي الالتفات إليها لتحديد درجة التعطيل المفترضة التي التزم بها هؤلاء العلماء في عصر الغيبة، بدل إطلاق كلام شعاري في هذا الموضوع. نعم تجربة العلماء التاريخية بحثٌ آخر يمكن الحديث عنه، وإنّما نظري هنا إلى رؤيتهم الاجتهاديّة ومساحة تعطيلها للنشاط النهضوي في عصر الغيبة.