الجواب: برهان النظم من البراهين الجيّدة لإثبات وجود الله تعالى، لكنّ بعض الفلاسفة الإسلاميّين المتأخّرين ـ المنتمين لمدرسة أرسطو في المنطق ـ ذكروا بأنّ هذا البرهان لا يفيد اليقين البرهاني المنطقي، وإنّما يفيد اليقين الذي يجامع احتمالاً ضئيلاً، ولو هو بنسبة الواحد في المليار، والسبب في ذلك عندهم أنّ هذا التنظيم الهائل للكون والعالم يمكن أن يكون اتفق صدفةً أن التقت كلّ هذه الأجزاء فيه لتضع هذا النظام؛ لأنّ برهان النظم قائم على النظم والانتظام والتناسب في العالم لا على أصل وجود الأجزاء المنتظمة فتأمّل أخي العزيز جيداً في الموضوع حتى لا يختلط الأمر عليك، ومن الممكن ـ كما يقول بعض الفيزيائيين المعاصرين ـ أن تكون قد حدثت ملايين الأكوان التي فسدت وصادف أن اتفق أنّ واحداً منها انتظمت أجزاؤه فكان هذا العالم، فغاية ما يُثبت برهان النظم عندهم هو قوّة احتمال أن يكون الناظم عاقلاً مريداً خالقاً مبدعاً مستغنياً حكيماً لكنّه لا يلغي احتمال أن يكون ما وقع كان عن صدفة واتفاق، تماماً ككتاب القانون لابن سينا فمن المحتمل ـ ولو احتمالاً بعيداً للغاية ـ أن تكون حروفه قد طارت في الهواء والتقت صدفةً فكوّنت هذا الكتاب، ورغم أنّ هذا الاحتمال قليلٌ للغاية لا يشكّل الواحد في مليون مليار، لكنّه ما يزال قائماً، ولهذا فهو من وجهة نظر بعض أنصار المنطق الأرسطي والفلسفة العقلية لا يفيد اليقين البرهاني القائم على استحالة البطلان والعكس، فلو ألقيت الرصاص المصهور على الأرض مليار مرّة، فقد تقع في المرّة الأخيرة صدفةً صورة مدينة منظّمة الأجزاء، فلعلّنا كنّا في كوننا هذا هذه المرّةَ التي التقت فيها أجزاء العالم صدفةً والتأمت، في حين قد حصلت هذه العمليّة مليارات المرّات في التاريخ، وكان العالم فيها غير منتظم، فمن يرفع هذا الاحتمال؟!
من هنا، توقّف بعض الفلاسفة العقليين الإسلاميين المتأخرين في قيمة برهان النظم رغم إقرارهم بأنّه برهان جيّد ومفيد ومقنع، بل يعتبرون أنّ برهان النظم أفضل البراهين لعامّة الناس، لكنّه ليس كذلك للفلاسفة والمحقّقين من العلماء، وذلك لهذا السبب. ويستبدلون ذلك ببراهين عديدة يقارب مجموعها في كتب الكلام والفلسفة الإسلاميين أكثر من عشرة براهين أقواها ـ من وجهة نظرهم ـ برهان الصديقين، والذي ذكرت له تسعة عشرة
صورة وشكل استدلالي، يرون أنّ من أقواها صيغ المدرسة الصدرائية.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الفلاسفة الذين اختاروا المنهج الاستقرائي في التفكير العقلي كالسيد محمد باقر الصدر، يعتبرون ـ على العكس من ذلك تماماً ـ أنّ برهان النظم هو الذي يفيد اليقين وأنّه تام علميّاً، مع إقراراهم ـ ربما ـ بوجود براهين أخرى قد تكون أقوى منه.
كما ولابدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الناس قد يذهل لبعض الدراسات الفيزيائية المتأخّرة خلال القرن العشرين وما بعده، والتي شكّكت في وجود الله تعالى، وطرح أنصارها شيئاً قريباً من تشكيك الفلاسفة العقليين الأرسطيّين ببرهان النظم، ولا يعرف الكثيرون أنّ الفلاسفة العقليين الإلهيين كانوا شكّكوا قبل هذه التشكيكات الفيزيائية بإثبات وجود الله عبر هذا الطريق، ولو طالعنا الكتب الفلسفية لرأينا أنّ الفلاسفة العقليين الإسلاميين تنبّهوا لهذه المشاكل التي لم يتنبّه لها المتكلّمون، ولهذا إمّا عالجوها أو أعرضوا عن الأدلّة التي تواجه هذه المشاكل نحو أدلّة أخرى رأوا فيها القوّة والمتانة، فبدل أن يذهبوا ـ وهذه نقطة بالغة الأهميّة وتشكّل مفتاح البحث في قضية (الله) ـ نحو بداية خلق الكون ووجوده بوصف ذلك نقطة اكتشاف الله، ذهبوا خلف الوجود الحاضر للعالم بوصفه نقطة اكتشاف الله تعالى، ولهذا لم يعد يهمّهم كلّ الجهود الباحثة عن بداية الكون. وتفصيل هذا الكلام
يحتاج لمجال أوسع لا يتوفّر لي الآن.