السؤال: يقال بأنّ الشيخ المفيد عليه الرحمة التزم التقيّة والمراوغة، بسبب ظروف عصره بما فيها من فتن وأهواء، كالفتنة المذهبيّة وشيوع ظاهرة الغلاة, وذلك في بيان آرائه العقائديّة الحقّة والمعتقد بها والمجمع عليها من علماء المذهب، خصوصاً في كتابيه: المسائل العكبريّة، وأوائل المقالات، بخلاف ما نجده من آرائه في الاختصاص بالذات، وحذره فيه أيضاً، وكذلك بقيّة كتبه كالترجيح والإرشاد والأمالي وغيرها. وهناك الكثير من العلماء من يصرح بأنّ الشيخ المفيد يقول رأياً في كتاب ويخالفه في آخر, وأنّ بعضاً من كتبه نشرت بعد وفاته رضوان الله عليه. وعليه ما مدى صحّة هذه الدعوى؟ وإذا صحّت (والشيخ المفيد هو المعتمد والرأي المتزن في بيان العقائد عند الاختلاف بين المتكلّمين) كيف يمكن لنا الاحتجاج ببعض آرائه ـ في العقائد ـ من كتبه، وهي متناقضة، وتحتاج لتأمّل جميع مصنّفاته حتى نقف عند رأيه الصحيح والموافق للإجماع من قبل علماء الطائفة كما قيل، وخصوصاً عند تلامذته كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي عليهما الرحمة؟ (منير بن علي، القطيف، المملكة العربية السعودية).
الجواب: هذه محاولة مشكورة يقوم بها بعض المشتغلين بالقضايا الكلاميّة في الفترة الأخيرة، ولم أجد أحداً قالها من قبل، وربما جاءت هذه المحاولة بعدما شعر فريق من المشتغلين بالبحوث الكلامية عند الإماميّة (إثر قولهم بأنّ بعض المعاصرين خالف الإماميّة، ثم انكشف أنّ قول هؤلاء المعاصرين يذهب إليه بعض القدماء) أنّ كبار علماء الطائفة القدامى لم تكن آراؤهم الكلامية في كتبهم منسجمةً تمام الانسجام مع ما بتنا نجده اليوم في المنظومة الاعتقادية السائدة عند الكثير من العلماء وغيرهم، حتى قال العلامة المامقاني بأنّ بعض ما كان يعدّ غلوّاً عند القدماء هو اليوم من ضروريّات المذهب.
وعلى أيّة حال، فيمكن لي أن أعلّق ببعض التعليقات السريعة:
أولاً: يعرف الجميع أنّ العلماء الكبار كثيراً ما عدلوا في كتبهم عن بعض آرائهم، بل قد صرّحوا هم أنفسهم بذلك مراراً وتكراراً، ففي كتابٍ كان يقول قولاً وفي كتاب آخر صار يقول قولاً مخالفاً، وهذا موجود في جميع العلوم الإسلاميّة عند جميع المذاهب، بل قد تجده لعالمٍ من العلماء في كتابٍ واحد، وقد اشتهر من بين علماء الإماميّة في هذا المجال كلّ من الشيخ الطوسي والعلامة الحلّي، بل هذه هي سنّة أغلب العلماء في الديانات كافّة، فها نحن نرى الملا صدرا الشيرازي يرى قولاً، ثم يعدل عنه في كتابٍ آخر، فقد كان يرى أصالة الماهية ثم صار يرى أصالة الوجود، بل قد ألّف الشهيد الثاني رسالةً مطبوعة اليوم ضمن رسائله أثبت فيها أنّ الشيخ الطوسي ادّعى في عشرات المواضع الإجماع على مسألة، لكنّه في كتب أخرى قال بعكس هذا الإجماع الذي ادّعاه، رغم إيمان الطوسي بحجيّة الإجماع في كتبه الأصوليّة، فمجرّد أنّ عالماً قال في كتابٍ له قولاً، ثم رأينا له في كتاب آخر قولاً آخر لا يعني وجود تحريف ولا تقيّة ولا مراوغة ولا غير ذلك، بل يعني عند الباحثين أنّه عدل عن رأيه. ألم يعدل السيد الخوئي في أواخر عمره عن نظرية كتاب كامل الزيارة، وأثّر ذلك في تغيير رأيه في عشرات المسائل الفقهيّة، ومنها إجزاء غسل زيارة الإمام الحسين عليه السلام عن الوضوء؟ ألم يكن السيد الخوئي يرى في بعض حياته حجيّة الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فيما عدل عنه في بعض آخر من عمره، وبالعكس، هذا من الأمور العادية جدّاً في كتب العلماء ومصنّفاتهم، بل لا تكاد تحصى كثرةً لو تتبّعها الإنسان، وبإمكانك أن تسأل أيّ متابع للعلوم الإسلاميّة ليؤكّد لك هذه الظاهرة الواسعة جدّاً. والشيخ المفيد وغيره ليسوا بمعصومين حتى نحمل كلامهم على التقيّة، باعتبار أنّ المعصوم لا يخطأ ولا يعدل عن رأي، بل هم بشر كسائر الناس يقعون في الخطأ ويبلغون الصواب، وتتغيّر آراؤهم وتتبدّل، فهذا هو المنطق الطبيعي للأشياء وغيره يحتاج لدليل، ومجرّد الاحتمالات الصرفة لا يغيّر من واقع الأمور شيئاً، فإنّنا نحتمل أنّ هناك مصلحةً لا نعرفها جعلت الشيخ المفيد يُظهر نفسه أنّه شيعي والحقيقة هو سنّي! فهل هذا الاحتمال مثلاً يعتدّ به في اتخاذ مواقف علميّة؟!
ثانياً: سلّمنا أنّ الشيخ المفيد لم يعدل عن آرائه، لكن كيف عرفنا أنّ رأيه الحقيقي هو الموافق لمشهور الطائفة (لو صحّ أنّ هذا الرأي أو ذاك هو مشهور الطائفة)؟ أليس من الممكن أيضاً أن يكون رأيه الحقيقي هو المخالف لإجماع أو مشهور الطائفة، لكنّه ذكر غيره مجاراةً لأبناء طائفته إذا صحّ التعامل مع العلماء بهذه الطريقة التي توحي بأنّهم مراوغين لا يحصل وثوق برأيهم الحقيقي في شيء؟!! كم من الاحتياطات الوجوبية للفقهاء ناشئة من هذا المنطلق (منطلق مراعاة ظروف الداخل الشيعي أكثر من الخارج)، فلماذا لا تكون طريقة الشيخ المفيد هي ذلك؟
إنّ بعضنا اليوم عندما يواجهون إحراجاً أو مشكلةً فكرية في مكانٍ ما يقولون: هذا صدر تقيّة، وهذا ضاع تقيّةً وخوفاً، وهذا سُكِتَ عنه تقيّةً، وهذا قيل تقيّةً، وهذا فُعِلَ تقيّةً، دون أن يقدّموا دليلاً موضوعيّاً على التقيّة ووقوعها هنا أو هناك، وهذا أكبر دليل لغير الإمامية لكي يقولوا قولهم المشهور: إنّ علماء وأبناء هذه الطائفة لا يمكن الاعتماد عليهم في شيء؛ لأنّ تصرّفاتهم قائمة على المراوغة والتقيّة، ولا يمكن اكتشاف رأيهم الحقيقي وسط فوضى الكلام المتداخل والملتبس الذي يقدّمونه!! بل بعضنا اليوم صوّر الأئمة أيضاً بأنّ آلافاً من رواياتهم صدرت تقيّةً حتى في التفاصيل الجزئيّة البسيطة في الفقه والآداب والأخلاق، والتي غالبها مما اختلف فيه سائر علماء المسلمين أشدّ الاختلاف، بحيث قدّمنا تجربتهم ـ عليهم السلام ـ لبيان الدين على أنها أسلوبٌ مبهم مراوغ مشوّش لأذهان العلماء والرواة والفقهاء بعدهم، فكيف كانوا مبيّني الدين وبعضنا اليوم يقدّمهم بهذه الطريقة؟! وكلّما وصلنا إلى نقطة محرجة لقناعاتنا الشخصية قلنا بأنّ الإمام قال هذا تقيّةً، حتى نفرّ من حديثٍ صحيحِ السند هنا أو روايةٍ معتبرة هناك، دون أن نقدّم أيّ دليل على ذلك! أيُّ بيانٍ هذا أن نقدّمهم في آلاف النصوص يقولون غير الحقّ؟! فقط لأسباب منها تبرئة الرواة من الوضع والدسّ! ومنها عدم وجود فهم تاريخي وزمني لبعض نصوص الأئمّة، فلكي تبرأ ساحة بعض الرواة حوّل بعضنا ـ دون أن يشعر ـ الأئمة إلى أشخاص يقولون كلّ يوم قولاً. وراجعوا كتب بعض الناس في تعاملهم مع الحديث، وكيف أفرطوا في استخدام التقيّة بحيث حوّلوا ـ وهم لا يشعرون ـ أهلَ البيت إلى أشخاص لو دخلت عليهم اليوم لقالوا لك شيئاً، ولو دخلت أنت بنفسك غداً عليهم لقالوا شيئاً آخر، فهل هذه طريقة مبتكرة حقّاً في بيان الدين أم طريقة مبهمة ملتبسة ابتكرت للحفاظ على بعض النصوص والرواة والقناعات؟! حتى أنّ بعض الروايات المتعارضة التي حُمل بعضها على التقيّة يمكن أن يكون راويها شخصاً واحداً كمحمّد بن مسلم، وهذا مثال واقعي، فكيف اتّقى منه الإمام في مكان دون مكان؟ هذا يحتاج لتفسير تاريخي، ولو كان هناك حضورٌ آخرون غير محمّد بن مسلم في إحدى المناسبتين، فلماذا لم يُشر لنا إلى ذلك محمد بن مسلم نفسه، وهو الذي يفترض أن يعرف أكثر منّا طريقة الأئمة هذه ويعيشها معها؟ إنّ استخدام فكرة التقية بهذه الطريقة المفرطة للفرار من أيّ حقيقة تاريخيّة هو ـ في وجهة نظرٍ ـ ليس سوى مراوغة، فلابدّ لك أن تُثبت بالدليل ولو الراجح أنّ الأمور صدرت لظرف تقيّة، مثل أن تكون القضيّة مما يمسّ السلطان مسّاً شديداً في ظرفٍ حسّاس، بحيث يُخشى فعلاً على الناس منه، وبدل أن نقدّم أهل البيت رجالاً خائفين دوماً من كل ردّة فعل يقوم بها الآخر تجاههم، علينا أن نقدّمهم رجالاً يقولون الحقّ ولا يخافون في الله لومة لائم كما هو خُلُق الأنبياء وسُنّة الأولياء في القرآن الكريم، ما لم يصل الأمر إلى حدّ الموت وإزهاق الأرواح والمفاسد العظيمة ونحو ذلك، فهذا له وضعه الخاصّ جدّاً الذي لابدّ أن تُدرس فيه الظروف بشكل دقيق، لا أنّه كلّما واجهنا تعارضاً بين الروايات أو مشكلةً هنا أو هناك، ألقينا عليه فكرة التقيّة بلا دليل حتى بالغ بعضنا فيها. هل تنفّر سائر المسلمين من الحقّ يستدعي من الأئمّة أن يقولوا غير الحقّ مع أنّ بإمكانهم الاكتفاء بالسكوت عن قول الحقّ لا النطق بالباطل وما هو غير حقٍّ واقعاً؟! والغريب أنّ بعضهم حمل بعض الروايات على التقية مع أنّ فيها حكماً مرفقاً باستدلال الإمام لهذا الحكم من القرآن الكريم، فكيف يمكن للإمام أن يتّقي إلى هذا الحدّ الذي يساعد فيه الرأي الآخر على الحصول على دليل، يُفترض أن يكون في الواقع باطلاً؟! هل هذا هو منهج القرآن الكريم الذي لا ينفكّ أهل البيت عنه؟ هل حقّاً إلى هذه الدرجة يتمّ تمييع الحقائق الدينية بحيث يتيه الشيعة أنفسهم (المعاصرون ومن بعدهم) في معرفة مراد الأئمّة؟ فهل حقّاً يفعل الأئمّة ذلك؟! وهل يفترض أنّ نصدّق روايتين أو ثلاث روايات تقول بأنّ الأئمّة كانوا يُلقون الخلاف بين الشيعة، ويقولون لكلّ مجموعة حكماً مختلفاً عن المجموعة الثانية، لكي يظهروا للناس أنّهم مختلفين؟! ألم يكن بإمكان الأئمة ـ بدل تضليل الشيعة بهذه الطريقة حتى تاهوا في معرفة الحقّ ـ أن يُعلموهم بالحقّ ويطلبوا منهم أن يتميّزوا عن بعضهم في الأداء أمام الآخرين حمايةً لهم؟ أيّهما الأضمن للدين؟ ألا يحقّ لنا التوقّف ونقد متن هذه الروايات القليلة العدد جداً؟
أنا أدعو ـ وأشرت لذلك في بحثي حول نقد المتن الحديثي ـ إلى إعادة النظر في الصورة النمطية التي قدّمها بعضنا للأئمة على أنّهم يقولون كلّ يوم قولاً متناقضاً، ويقدّمون للشيعة أكثر من دين، ويوقعون بينهم التيه والضياع، فبدل هذا الأمر فلنتّهم الرواة الذين كانوا السبب ـ قاصدين أم غير قاصدين ـ في اضطراب الروايات وتعارضها، أليس بعض الشيعة يتهمون السنّة بأنّهم أنقصوا من قيمة النبيّ لأجل الحفاظ على الصحابة، أليس من المهم أن ينتبه الشيعة لهذا الأمر أيضاً فلا يُنقصوا من شأن الأئمّة لأجل الحفاظ على أصحابهم؟ أنا أعرف أنّ هذا الكلام قد يواجَه نفسيّاً بشيء من التحفّظ، لاسيما بعد أن تعوّدنا جدّاً على هذه الصورة النمطية، بحيث لم نعد نشعر بكونها صورة مشوّهة أصلاً، لكنّني أدعو دعوةً صادقة لفهم أهل البيت على أنّهم رجال يقولون الحقّ بلا خوف، ولا مراعاة لتقييم الآخرين له. نعم، في الحالات الطارئة الواضحة يمكن تفسير بعض الأمور لكنّها تظلّ محدودةً من حيث نوعية المواضيع والأفكار والمواقف..
هل كان الأئمّة ملزمين بالإجابة عن كلّ سؤال وهم الذين روي عنهم أنّهم قالوا لأصحابهم: عليكم السؤال وليس علينا الإجابة؟ فلماذا لا يسكتون بدل أن يقولوا ما يعرفون أنّه غير الحقّ في الدين؟ ولنفرض أنّهم سيبرزون رأياً مخالفاً لمالك أو أبي حنيفة، هل سيؤدي ذلك إلى جرّهم للسجن، وأبو حنيفة كان بنفسه مضطهداً في الدولة العباسية الأولى؟ ألا يحقّ لنا المطالبة بإعادة النظر بهذه الصورة التي قدّمها بعضنا لأهل البيت وربما يكون أصلها الرواة أو بعض الغلاة الذين كانوا يريدون أن يقولوا للناس بأنّ لدينا أسراراً، وإذا رأيتم رواياتٍ تخالف ما نقوله لكم عن أهل البيت من أسرار فلا تكذّبونا، فإنّ أهل البيت يقولون كلاماً مختلفاً تقيّةً وتكتيكاً وغير ذلك؟ أليس هذا الاحتمال ينبغي وضعه علميّاً على طاولة البحث لدراسة المشهد وفق أكثر من افتراض تاريخي؟ كيف كان الإمام الصادق عليه السلام وهو الذي روينا عنه أنّ عنده آلاف التلامذة، أي لديه جمهور علمي كبير في المحافل العلميّة، وكان رجلاً موقّراً محترماً جداً في أوساط أهل العلم والزهد عند المسلمين.. كيف يمكن له أن يمارس التقية بهذه الطريقة المفرطة ليس في أن يتكتّف هو في الصلاة، بل في أن يبيّن الدين بغير واقعه الصحيح فيقول مثلاً: تكتفوا في الصلاة، علماً أنّ مالك ومذهبه لم يكن يرى التكتّف مثلاً واجباً ولا حتى مخالفته مشكلة؟ هل حقّاً يوجد معطى تاريخي يؤكّد أنّ المخاطر كانت تطال حتى هذه التفاصيل الجزئيّة التي وقعت خلافات كبيرة وتفصيلية بين أهل السنّة أنفسهم فيها، لاسيما والجميع يعرف أنّ الدولة العباسية لم تشهد إعلان مذهبٍ فقهي على أنّه المذهب الرسمي إلى ما بعد ـ على الأقل ـ الإمام الكاظم عليه السلام، فإسقاطك فكرة المذهب الرسمي على تلك الأزمنة هو أيضاً يحتاج لدراسة معمّقة، فقد يكون كلاماً غير دقيق أبداً، وإنّما صورة نمطية غير مبرهنة، وقد تكون جاءت تبريراً نتيجة الخوف من أنّ التخلّي عنها يوجب هدر النصوص أو الوقوع في مشاكل في الأسانيد والرواة.
أنا أطرح هذا الرأي للتداول لإعادة النظر من جديد بطريقةٍ نكون فيها مستعدّين لممارسة نقد للرواة وأساليبهم في نقل الحديث أكثر من تحويل أهل البيت إلى أشخاص تشعر مع بعضنا وهو يصوّرهم لنا بأنّهم غير مؤهّلين والعياذ بالله في أن يكونوا مؤتمنين على بيان الدين للأمم المعاصرة لهم، فضلاً عن اللاحقة، وكلّ مطلع على أزمة التعارض الحديثي عند الإماميّة وطرائق تعامل البعض معها يعرف حجم القضيّة التي أتكلّم عنها، وأهميّتها وتأثير الموقف فيها على وضع منهج مختلف تماماً في التعامل مع الموروث الحديثي.
هذا، وكلامي هذا هو إثارة فكريّة تبدو لي بذهني القاصر جادّة جدّاً، وأنا أعرف أنّ هناك من سيقول: ماذا تفعل في روايات علاج التعارض بالحمل على مخالفة أهل السنّة وغير ذلك، وأقول له: كلّها (وهي قليلة العدد) يجب التفكير فيها، وفقاً لنظرة تأخذ بعين الاعتبار على الأقلّ الإشكالية المثارة أعلاه. ولا اُلقي كلامي هنا من فراغ إن شاء الله، فقد كنت ألقيت مجموعة من الدروس في البحث الخارج تتصل بهذه القضية لم يُنشر مضمونها بعد؛ لأنّني أعتقد بأنّ بعضنا قدّم أهل البيت بصورة رجال أمن ومخابرات وأناس يتلوّنون بألف لونٍ كلّ يوم والعياذ بالله تعالى، وقد عالجت في هذا البحث كلّ ما طرح لتبرير فكرة التقيّة (أعني هنا التقيّة في عالم بيان الدين من قبل أئمّة الدين المؤتمنين عليه، لا التقيّة في عالم ممارسة الدين، فتأمّل جيداً لتعرف موضوع بحثنا، حتى لا يظنّ ظانّ أنّني أتكلّم عن أصل مبدأ التقيّة أو أرفضه، فهذا غير صحيح أبداً)، وانتقدت فكرة (الرشد في خلافهم)، وتوصّلت إلى أنّه لم تصحّ أيّ رواية سنداً من روايات الأخذ بما (خالف العامّة)، حتى رواية الراوندي التي صحّحها السيد الصدر، مع أنّ عدد هذه الروايات قليلٌ للغاية، فلم أقبل بمعيار إلزامي في ترجيح الحديث يسمّى بمخالفة أهل السنّة إلا في نطاق ضيّق جداً، وفاقاً لبعض العلماء، كالمحقّق الخراساني صاحب الكفاية القائل (على تقديرٍ) بالتخيير لا بالترجيح، وليس آخرهم السيد تقي القمّي حفظه الله تعالى.
ويهمّني أيضاً أن أشير إلى أنّ ملاحظتي هي على الطريقة المفرطة في استخدام مفهوم التقيّة في بيانه الدين وإلقائه على الأئمّة، وهي طريقة اتبعها بعضٌ، لكنّ الكثير من العلماء عندما نراجع أعمالهم لا نجد عندهم هذه الظاهرة الإفراطيّة، بل نجدهم منطقيين ومتوازنين في تطبيق مبدأ التقية على بيانات الأئمّة. أقول هذا حتى لا يفهم القارئ ـ لاسيما غير الإمامي ـ توصيفاً غير دقيق لجهود العلماء السابقين والمعاصرين.
ثالثاً: إنّ بعض ما ذكرتموه من كتب للشيخ المفيد وقع نقاش في نسبته إليه مثل كتاب الاختصاص الذي لا يرى السيد الخوئي مثلاً أنّه للشيخ المفيد، بل يرى الأمر غير مؤكّد. أمّا الكتب الأخرى التي ذكرتموها له وكأنّها تعبّر عن رأيه الكلامي مثل كتاب الأمالي، فهذه كتب حديث، ولا يوجد دليل على ضرورة تبنّي المحدّث ما يكون في كتبه الحديثية بالضرورة، ما لم تقم قرينة أو شهادة على ذلك، كما في مثل مقدّمة الشيخ الصدوق لـ (كتاب من لا يحضره الفقيه).
رابعاً: لماذا يضطرّ الشيخ المفيد للتقيّة وقد كان إمام الكلام والفقه في بغداد في عصر الدولة البويهيّة الشيعيّة؟ ثمّ لو سلّمنا فكيف اتّقى الشيخ المفيد في كتاب دون كتاب؟ وحتى في نفس (أوائل المقالات) لم يترك مذهباً إلا وانتقده أو اختلف معه، ألن يعرف الآخرون سائر كتبه فيطّلعون من خلالها على حقائق آرائه فيكشفون تقيّته مثلاً؟ وهل كانت سائر كتبه مخفيّة مستورة يتداولها الشيعة فيما كتاب أوائل المقالات يتداوله الناس قاطبة؟ وأين الدليل على ذلك؟
خامساً: لماذا يجب تفسير مواقف الشيخ المفيد بما يوافق الإجماع؟ وما هو الدليل على ذلك؟ هل هناك برهان يثبت أنّ الشيخ المفيد لا يمكن أن يخالف الإجماع في القضايا الكلامية التي غالباً لا قيمة للإجماع فيها عند مثل الشيخ المفيد وأنصار المدارس الكلامية العقلية عند الإمامية؟
سادساً: إنّ قضيّة نشر بعض كتب الشيخ المفيد بعد وفاته تحتاج إلى دليل؟ ولو سلّمنا فكم من عالم لم تنشر بعض كتبه إلا بعد وفاته؟ وليس آخرهم الميرزا جواد التبريزي رحمه الله، فهذا أمرٌ عادي جدّاً، فما هو الموجب لتفسيره بأنّه للتقيّة؟ بل لو صحّ أنّ بعض كتبه نشرت بعد وفاته فإذا كانت هذه الكتب هي أوائل المقالات وأمثاله فلماذا نشرها تلامذته مع أنّها كانت للتقيّة حسب هذا القول، لا لبيان رأيه النهائي الحقيقي، فلم يعد لنشرها معنى بعد وفاته، وإذا كانت هي مثل الاختصاص وغيره، فلماذا لا نشكّ في صحّة نسبتها إليه، وقد نُشرت بعد وفاته، ونحن لا نملك نُسخاً مخطوطة لها ترجع لقرنه وزمنه؟ إذا فتحنا هذا الباب بهذه الطريقة فسوف يشمل الإشكال العشرات من العلماء أيضاً.
سابعاً: ما معنى أنّ قول الشيخ المفيد هو الرأي المتزن في الطائفة؟ إنّ رأيه هو رأيه، ولكلّ إنسان الحقّ في أن يوافقه أو يخالفه، فليس إذا كانت آراؤه وسطاً بين الآراء فهذا يعني أنّها متزنة وحقّة، وليس هناك من عالم يمثل الطائفة الشيعية عبر التاريخ، بل هي اجتهادات في القضايا الكلامية، وما يمكن أن يمثل رأي الشيعة من زاوية توصيفيّة تاريخية هو رأي المشهور لا رأي هذا العالم ولا ذاك، سواء كان الشيخ المفيد أم الحافظ البرسي. وبناء عليه لا معنى للسؤال: كيف نحتجّ بقوله وفي كتبه تناقض؟ فإنّ التناقض هذا هو العدول عن آرائه، ولا يحتجّ أحدٌ بقوله، فالعلماء يحتجّ لهم لا بهم، ويكفي أن يكون قد اختار قولاً في بعض فترات عمره حتى يصحّ القول بأنّ هناك بين علماء الطائفة من خرج عن المشهور ولو في بعض فترات عمره، ولعلّ عدوله هذا جاء آخر عمره وليس في البدايات مما يعزّز خرق الإجماع. فهذا الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط يرى حرمة السمك الذي لا فلس له، لكنّه في الاستبصار والتهذيب يرى أنّ كلّ سمك البحر حلال إلا سمك الجريث خاصّة، ولذلك قال بعض العلماء بأنّ قوله في الاستبصار يخرق إجماع الطائفة، حتى لو عدل عنه في المبسوط؛ لأنّه يحدث شرخاً في التماسك القائم بين مواقف العلماء.