السؤال: نقل عنكم شفاهاً أنّ هناك رأياً فقهيّاً لبعض الفقهاء المعاصرين يجيز المصافحة بين الرجل والمرأة، فهل هذا صحيح؟ ومن هو هذا الفقيه؟ وما هي فتواه؟ (مصطفى كركي، لبنان).
الجواب: على كلّ مكلّف أن يعمل بما هي وظيفته الشرعيّة اجتهاداً أو تقليداً أو احتياطاً. والمصافحة بين الرجل والمرأة محرّمة عند جمهور المسلمين قاطبة، فالمعروف بين الفقهاء حرمة اللمس مطلقاً لغير الزوج ومن استثنتهم الآية الكريمة إضافة إلى العم والخال، ويحرّمون المصافحة مطلقاً نتيجة ذلك، إلا من وراء الثياب دون غمزٍ باليد، بلا فرق في ذلك عندهم بين الاعتياد على هذا الأمر وبين كونه حالةً عابرة، كما لا فرق عندهم بين اللمس والمصافحة بشهوة وريبة وعدمهما، نعم يميّزون بين حالات الضرورة القاهرة وغيرها فيجيزون في حالات الضرورة القاهرة ويحرّمون في غيرها، مستندين في ذلك كلّه إلى نصوص متعدّدة، غالبها يرجع إلى قضيّة مبايعة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للنساء، لكنّ الشيعة يضيفون إلى هذه النصوص (نصوص البيعة) التي يناقش في دلالتها بعض فقهاء الإماميّة كالسيد الخوئي، يضيفون بعض الأحاديث القليلة الأخرى ـ وعمدتها حديثان ـ المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام. وذهب بعض الحنابلة والأحناف إلى جواز المصافحة بالنسبة للمرأة العجوز، وخالفهم في ذلك البقيّة.
لكن في القرن الأخير ظهر رأيٌ يميل أو يفتي بجواز المصافحة في الجملة، ولعلّ من أوائل من أثار هذا الموضوع على المستوى السنّي الشيخ تقي الدين النبهاني (مؤسّس حزب التحرير) والمتوفّى عام 1977م، وقد دافع أنصاره بقوّة عن هذه الفتوى، وحاولوا تحصيل موافقٍ لهم عند قدماء الفقهاء، ووقعت جدالات طويلة في هذا الصدد بينهم وبين خصومهم.
أمّا شيعيّاً، فقد أفتى الشيخ حسين علي المنتظري (2010م) في أواخر حياته، بجواز المصافحة بشرطين، وهما: أن لا تكون هناك شهوة، وأن لا يلزم من المصافحة إهانة لأحد الطرفين. وقد انتُقد المنتظري بشكل واسع في هذا الموضوع في الأوساط العلميّة والدينية، كما دافع عنه فريقٌ من الباحثين المشتغلين بالفقه الإسلامي، ولعلّ من أبرزهم تلميذه الشيخ أحمد عابديني، الذي كتب دراسة مطوّلة سبق أن نشرناها في العددين 15 ـ 16، من مجلّة الاجتهاد والتجديد، صيف وخريف عام 2010م، ثم نُشرت في كتاب مجلّة الاجتهاد والذي حمل عنوان: (فقه الحجاب في الشريعة الإسلاميّة، قراءات جديدة)، وصدر عن مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت عام 2012م.
وقصّة فتوى الشيخ المنتظري كانت على الشكل التالي: في البداية وعام 2002م، وجّه أحد الجامعيين الإيرانيين المقيمين في أوروبا، استفتاءً للشيخ المنتظري، نشر في كتاب فارسي تحت عنوان (ديدگاهها)، وهذا نصّه:
الاستفتاء: إنني طالب إيراني أقيم وأدرس في أحد البلدان الأوروبية، وبسبب حرصي على الثورة فقد رحبت السفارة الإيرانية وغيرها من المؤسّسات الإيرانية لأكون على صلة وثيقة بها، وأن أقدم لها العون بقدر استطاعتي. وبسبب هذا الارتباط عشت مشاهد عديدة دعتني إلى كتابة هذه الرسالة والاستفهام عن هذه المسألة: تعلمون أن الموظفين هنا في السفارة الإيرانية لا يصافحون النساء، ويُرجِعون ذلك إلى أسباب دينية وشرعية، ولكنني كشخص مسلم موالٍ للثورة لم أجد ذلك مقنعاً، فقد شهدت الكثير من المواقف المصحوبة بالاستهزاء ببلدنا، بل وحتى بالإسلام؛ بسبب الإحجام عن مصافحة السيدات، وتعود جذور هذا الاستهزاء إلى أنّ المسلمين الآخرين، وحتى الشيعة، في مختلف مناصبهم لا يجدون حرجاً في هذه المصافحة، بل لا يمكن القول بأنّ الإحجام عن المصافحة مقتصر على الإيرانيين فقط، فهناك الكثير منهم، بل وحتى الذين تمّ تنصيبهم من قبل الحكومة الإيرانية، لا يرون إشكالاً في مصافحة النساء، بل شهدت شخصياً بعض المتشرِّعين من الإيرانيين الذين لا يرون بأساً في هذه المصافحة، والاستثناء الوحيد في البين ينحصر في الدبلوماسيين الإيرانيين، مما أدّى إلى ظهور الوهن، وخاصة أنّ التصوّر يذهب إلى أنّ هؤلاء الدبلوماسيين إنما يحجمون عن مصافحة السيدات خشية أن يضرّ ذلك بمناصبهم وسقوطهم سياسياً، وهناك من يقوم بحركات عجيبة للفرار من هذا الوضع المحرج. فأرجو من سماحتكم بيان ما إذا كان هذا الأمر معضلة تحتاج إلى حلول. وقد ناقشتُ هذه المسألة مع بعض الإيرانيين، إلا أنّ جوابهم كان أشبه بخطّة عمل حكوميّة.
وكان جواب الشيخ المنتظري بالنصّ التالي: أولاً: يستفاد من كثير من روايات باب النظر أنّ حرمته من جهة احترام المنظورة. وعليه إذا كانت المنظورة لا تجد في ذلك هتكاً لحرمتها، وكانت لا تستر نفسها، كان النظر لها جائزاً طبعاً، إلا إذا أدّى إلى الوقوع في الفساد، خاصّة في ما يتعلّق بغير المسلمات، حيث لا يذهبن إلى حرمة النظر، بل ويجدن في عدمه ما ينافي احترامهنّ. ولا يبعد وجود نفس الملاك في المصافحة. كما أنّ روايات مصافحة الأجنبية تنصرف إلى خصوص المسلمات. أجل، إذا كان النظر أو المصافحة تؤدّي إلى فساد أخلاقي، أو كان بقصد الشهوة، فهو حرامٌ بلا إشكال. وثانياً: إذا كان النظر أو المصافحة في بعض الأجواء والظروف ضرورة عرفية، وكان الإحجام يؤدّي إلى الوهن، جاز ذلك بمقدار الضرورة، إلا إذا استتبع فساداً أخلاقياً، أو قصد منه الالتذاذ. ولو أمكنت المصافحة من وراء الثوب أو القفاز فهو أدنى للاحتياط.
وفي أواخر عام 2003م، وجّه استفتاء آخر للشيخ المنتظري وهذا نصّه: صدرت عنكم مؤخّراً فتوى في خصوص المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية، وفيها إبهامات في ما يتعلّق بالمسلمات، وعليه نطرح الأسئلة الآتية: 1ـ لو كانت المسلمة مؤمنة بفروع الدين من الصلاة والصيام وأصل الحجاب وما إلى ذلك، ولكنها ترعرعت وما زالت تعيش في أجواء ثقافية تفرض عليها إذا خاطبها رجل أن ينظر في وجهها (من دون ريبة)، أو أنها تجد في شخصيتها نقصاً إذا لم يصافحها، فما هو حكم النظر إليها ومصافحتها في هذه الصورة؟ 2ـ ما هو حكم اللائي لا يعتقدن بالحجاب؟ 3ـ ما هو المتَّبع في تحديد الضرورة العرفية في ما يتعلّق بالنظر أو المصافحة؟ مع الشكر والامتنان.
وكان نصّ جواب الشيخ المنتظري ما يلي: ج1ـ إنّ عدم مسّ الأجنبية والنظر إليها إنّما هو من أجل الحفاظ على حرمتها واحترامها، فإن لم تَرَ هذه الحرمة لنفسها، بل وذهبت إلى كون عدم النظر إليها وعدم مصافحتها عدم احترام لها، ففي هذه الصورة لا مانع من مصافحتها، مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها. ج2ـ لا مانع من ذلك مع عدم حصول الشهوة وعدم قصدها. ج3ـ المناط هو عرف المحلّ.
وعليه، فالشيخ المنتظري ـ وفقاً لهاتين الفتويين ـ يذهب إلى جواز مصافحة غير المسلمة، بل والمسلمة مع عدم الشهوة والريبة وعدم حصول إهانة ومنافاة للاحترام بمصافحتها. هذا ولديّ شخصيّاً بحث مفصّل في موضوع المصافحة لم أنشره حتّى الآن، وكنت ألقيته دروساً على طلاب البحث الخارج في الحوزة العلميّة في مدينة قم، والاحتياط سبيل النجاة.