السؤال: يقول الفقهاء في رسائلهم العمليّة حول طرق إثبات الأعلمية ما نصّه: (وكذا الأعلمية تعرف بالعلم، أو بالبيّنة غير المعارضة، أو الشياع المفيد للعلم). أليست البيّنات التي تشهد بأعلميّة مراجع دين آخرين غير مرجعي الديني هي بيّنات معارضة للبيّنات التي شهدت لمرجعي بالأعلميّة؟
الجواب: إذا كانت البيّنات التي شهدت لغير مرجعك بالأعلميّة تعرف بوجود مرجعك وكونه قد طرح نفسه للتقليد، بحيث كانت ملتفتةً إليه آخذةً له بعين الاعتبار في سباق الأعلميّة ـ إذا صحّ التعبير ـ فإنّ شهادتها بأعلميّة غيره تُثبت بالمدلول المطابقي أعلميّة غيره، وتنفي بالمدلول الالتزامي أعلميّته، فتكون معارضةً للشهادات التي تُثبت أعلميّته بالمدلول المطابقي وتنفي أعلميّة غيره بالمدلول الالتزامي، وفي هذه الحال إمّا يقال بسقوط هذه الشهادات برمّتها، وتقليد كلّ من هو مظنون الأعلميّة أو محتملها، أو يقال بالترجيح بين الشهادات كما لو كان الذين شهدوا بالأعلميّة لمرجعك أكثر خبرةً وعلماً ودقّةً من الذين شهدوا لغيره، أو تكون الكثرة العدديّة في الشهداء موجبةً لهذا الترجيح أحياناً، فمع المرجّح يؤخذ بالبيّنة التي ثبت لها المرجّح، وإلا عدنا إلى تقليد من هو مظنون الأعلميّة، وإلا فمُحْتَمَلُها. ذلك كلّه بناء على نظرية لزوم تقليد الأعلم.
وإنّما قيّدتُ في مطلع كلامي الموضوع بكون البيّنة مطلعة أو آخذة بعين الاعتبار مرجعك؛ لأنّ الملاحظ في بعض الأحيان أنّ بعض البيّنات لا تُدخل في إطار المنافسة بعضَ الأشخاص، فهم خارجون عندها تماماً، وسأعطي مثالين على ذلك:
المثال الأوّل: قد يكون زيد هو الأعلم، لكنّه من وجهة نظر البيّنة غير عادل أو غير صالح (كما بلغنا بطريق موثوق أنّه حصل ذلك في حقّ بعض المراجع رحمهم الله)، وفي هذه الحال لا تقول البينة بأنّ زيداً هو الأعلم ولكنّه فاسق، فيكون عمرو هو الأعلم الذي يجوز تقليده، وإنّما تتجاهل عملية الترتيب الدقيق في التعبير هذه (لبعض الأسباب والاعتبارات)، لتقول بأنّ عمرواً هو الأعلم، وتقصد البيّنةُ من ذلك أنّه من بين من يجوز تقليده فإنّ عمرواً هو الأعلم، وهذا ما يسبّب أحياناً بعض الالتباس الذي سببه عدم دقّة تعبير الشهود على الأعلميّة، وليس عدم دقّتهم في تشخيص الأعلميّة فتأمّل جيداً، فما أقوله ليس فرضيّة خياليّة بل هي أمور تحصل ولو قليلاً، ولولا عدم الرغبة في الدخول في الأسماء لبيّنتُ ذلك بوضوح، فإنّ البيّنة التي قالت بأن فلاناً هو الأعلم لكنّه فاسق، ففلانٌ الآخر هو الأعلم الذي يجوز تقليده، لم تكن متحرّجةً في ذلك المجلس الخاص الذي قالت فيه ذلك، بل هي تنطلق من رؤيتها الشرعيّة التي تؤمن بها وقناعاتها الموضوعية والمصداقيّة التي توصّلت إليها، لكنّ الإفصاح عن هذا الأمر عادةً ما يكون حرجاً في العلن، وهذا ما يسبّب في بعض الأحيان القليلة جدّاً ارتباكاً في بيان الأعلميّة عند بعض الشهود. ففي مثل هذه الحالات لا تتعارض بيّنات الأعلميّة، وإلا فهي متعارضة، ويُرجع في حكم تعارضها إلى ما بيّناه مطلع الحديث، على الخلاف بين الفقهاء في تقديم البيّنة الأكثر خبروية أو في التساقط فوراً عند التعارض.
المثال الثاني: أن تكون البيّنة على أعلميّة زيد سابقة زمناً على طرح عمرو لمرجعيّته، وفي بعض الأحيان تكون البيّنة قد أخذت بعين الاعتبار عند الشهادة بالأعلميّة خصوص من هم متصدّون للتقليد في وقتها بحيث صدرت لهم رسائل عملية أو استفتاءات تبيّن أنّهم مطروحون للمرجعيّة، أمّا سائر الفقهاء الذي لم يتصدّوا فإنّ بعض البينات لا تلاحظهم أساساً، فعندما تقول بأنّ زيداً هو الأعلم فهي تقصد أنّه الأعلم من بين المراجع المتصدّين للفتوى، فإذا شهدت البيّنة لزيد بالأعلميّة ولم يكن عمرو قد طرح حينها نفسه للتقليد، وبعد مرور عشر سنوات مثلاً طرح عمرو نفسه للتقليد، فإنّ بيّنة زيد قد لا تناقض البيّنة التي شهدت بأعلميّة عمرو، ما لم تتمّ مراجعة أصحاب البيّنتين مرّةً أخرى لأخذ الإفادة منهم أو قامت قرينة على اعتقاد البينة بالأعلمية حتى بعد تصدّي عمرو للمرجعيّة، فهذا مثل قولك بأنّ محمداً هو الأعلم في الصفّ الخامس، فإنّ هذا لا يشمل عليّاً الذي جاء إلى الصف الخامس بعد خمس سنوات مثلاً، بحيث كان محمد حينها في الصف العاشر، فإذا كان هناك احتمال أن يكون الوضع على الشكل المذكور فلا تتعارض البيّنات، بل يصبح من الصعب الأخذ بالبيّنة القديمة التي جاءت قبل طرح عمرو لمرجعيّته، إذا احتمل أنّها لم تأخذ بعين الاعتبار علم عمرو وأعلميّته؛ لأنّ الأعلمية مفهوم نسبي قياسي مقارن. وهذا يحصل بشكل أوضح أحياناً في البينة التي توفي أصحابها والشهود فيها قبل طرح عمرو لمرجعيّته.
ولعلّ من هذا القبيل أحياناً ما إذا شهد الفقيه بأعلميّة المرجع الفلاني، ثم طرح هذا الفقيه نفسه مرجعيّته بعد عشر سنوات أو عشرين عاماً، ففي هذه الحال قد تجد أنّ شهادته بالأعلميّة لم يكن يقصد من المقارنة فيها إدخال نفسه في الحساب؛ لأنّه لم يكن بصدد التصدّي للتقليد حينها، فقد يفهم حينئذٍ أنّه الآن يرى نفسه الأعلم فيما يرى ذاك الذي شهد هو له بالأعلميّة تالياً له يُرجع إليه عنده في الاحتياط الوجوبي، ولهذا قد لا يرد على هذا الفقيه أنّه كيف ترى زيداً أعلم وأنت طرحت نفسك في عرضه، وفي الوقت عينه ترى أنّه لا يجوز للمكلّفين تقليد غير الأعلم؟! فقد يكون أحد التخريجات عنده هو هذا الأمر. إنّ مثل هذه الحالات قد تقع، ولكنّها ليست دائماً بالتي تقع على الشكل الذي قلناه، فينبغي التنبّه لمثل هذه القضايا (التي قد تقع أحياناً) في موضوع تعارض البيّنات. وهذا كلّه يكشف عن نقطة مركزية وهي أنّ إثبات أعلميّة شخص وسط مجموعات من التوجّهات والبينات يحتاج للكثير من الدقة وتكتنفه العديد من المصاعب الميدانيّة، ولا يصحّ فيه ممارسة التبسيط أبداً.