السؤال: هل نظرية مقاصد الشريعة قد خرجت ـ شيعيّاً ـ إلى الواقع العملي في استنباط الحكم الشرعي؟ وهل عمل السيد محمد باقر الصدر بهذه النظريّة؟ ومَنْ يعمل من العلماء بهذه النظريّة؟ (الإدريسي الإدريسي).
الجواب: بوصفها نظرية يعمل بها في الاجتهاد الفقهي لتكون معلم الاجتهاد ومنهجه وطريقته، يمكنني القول بأنّ هذه النظرية لا تعرف حضوراً حقيقيّاً في الوسط الشيعي إلى يومنا هذا، بل إنّ أغلب العلماء أغلبيّةً ساحقة لا يتعرّضون لبحث هذه النظرية أساساً إلى يومنا هذا لا في كتبهم ولا في محاضراتهم ودروسهم، نعم، ظهرت ميول لإعادة الاعتبار لهذه النظرية/المنهج في الاجتهاد خلال العقود الأخيرة، لا سيما العقدين الأخيرين، لكنّ هذه الميول لم تعبّر يوماً ـ باستثناء كتابات محدودة جدّاً ـ عن توجّه حقيقي لإعادة بَنينة الاجتهاد الشرعي على أصول المدرسة المقاصديّة، وغالباً ما وجدنا بعض التطبيقات المبعثرة لبعض الشخصيات أو الباحثين هنا وهناك في موضوع فقهي معيّن أو دائرة فقهيّة معيّنة، لكنّنا لم نجد نزعة المقاصد تحكم حركة الاجتهاد حتى عند أكثر القائلين بضرورة تحديث الاجتهاد الفقهي في المؤسّسة الدينية. وإذا أردنا أن نأخذ بعض التيارات العلمانية المؤمنة أو المثقفة فيمكن الحديث عن رغبة في هذا المشروع لا عن ممارسة أو تنظير حقيقي شامل يستطيع تقديم بدائل عن الأصول الاجتهادية القائمة.
وأمّا السيد الصدر فإنّني لا أراه مقاصديّاً بالمعنى المصطلح للكلمة، ما لم نستخدم الكلمة بمعنى عام كلّي، ويجب أن نكون دقيقين في استخدام المصطلحات. نعم هو من الذين يميلون لقراءة الإسلام من زاوية فكرة الأهداف والغايات العليا، كما هي طريقة الشيخ محمد رضا حكيمي وطريقة الشيخ محمد مهدي شمس الدين وطريقة سيد قطب بل طريقة الكثير من مؤسّسي الحركات الإسلاميّة أيضاً، لكنّ هذا غير صياغة منهج اجتهاد فقهي يقوم على تأصيل نظرية المقاصد. وبالنسبة لي فإنّني من المقتنعين تماماً ـ وهي قناعة شخصيّة تقوم على تحليل ولا أنسبها له ـ بأنّ السيد باقر الصدر كان في الفضاء الحوزوي يحاول البحث على طريقة القوم، لكنّه كان يحمل أفكاراً مختلفة تماماً في المنهج، غير أنّه ما كانت هذه الأفكار قد بلغت عنده حدّ تقديم منهج اجتهادي بديل مقنع لديه، ليتمكّن من طرحه بقوّة في الأوساط العلميّة، فضلاً عن وجود معوقات عمليّة لطرح مشاريع بالغة الاختلاف عن السائد، ولهذا أجد أنّ السيد الصدر في مثل المدرسة القرآنية واقتصادنا والإسلام يقود الحياة وبعض محاضراته وبحوثه المتفرّقة التي غالباً ما كان المخاطب فيها خارج إطار الدرس الاجتهادي الحوزوي التقليدي أو كانت محاضرات أشبه بالمغلقة، أجده مستخدماً لمنطق تفكير متمايز بعض الشيء عمّا نجده عنده في بحوث الطهارة من شرح العروة أو في بحوث الأصول (لا أتكلّم هنا عن اللغة بل عن المنهج)، يبدو لي أنّه كان في أعماق نفسه ميّالاً لتوجّه معيّن، يُظهر ميله إليه في الكتب غير الحوزوية، إلى حدّ الشعور أحياناً بأنّ الكاتب هنا غير الكاتب هناك على مستوى نمط التفكير، وهذا ما يرجّح عندي أنّ السيد الصدر كان مسكوناً بأفق مختلف تماماً، لكنّه كان محاصراً في ذاته وفي محيطه من الانطلاق بهذا الأفق داخل الدرس الحوزوي وداخل العملية الاجتهادية المدرسيّة، إمّا لأنّ بعض جوانب الصورة لم يكتمل، أو لوجود موانع، وإنّني من الذين يميلون افتراضاً إلى أنّ السيد الصدر قد اقتصر إبداعه الرئيس بعد دخوله ثلاثينيات عمره على مشروع الأسس المنطقيّة للاستقراء، واستغرق كثيراً في الدرس الحوزوي المدرسي في النجف، وعاد لتتجدّد فيه الروح في بداية الأربعينيّات من عمره عندما صار مشروع مرجعيّته مختمراً، ليتوّج اندفاعه هذا بانفجار الثورة الإسلامية في إيران قبل انتصارها بفترة وجيزة، فلو حلّلنا كتاباته نجد هذا الشيء، ونجد في ظنّي أنّه ظلّت الرؤية الإصلاحية كامنة عنده تبرز بين الفينة والأخرى.
لكنّ هذا كلّه لا يعني أبداً أن ننسب للسيد الصدر تبنّي مشروع المقاصد، فهذا خطأ، نعم لديه ميل مقاصدي عام، ولديه بعض التطبيقات المبعثرة أو بعض الالتفاتات في العمليات الاجتهادية، لكنّ الرجل لا يمكن أن نصنّفه على المدرسة المقاصدية بالمعنى المصطلح للكلمة، وإن كان غير متصادم معها.
وأمّا عن علماء قريبين من النمط المقاصدي وليسوا بمتماهين معه أبداً، فيمكن أن تجد أولئك الميّالين ـ بدرجةٍ ما ـ للنزعة التاريخيّة، حيث تجد في أعمالهم نسبةً أكبر من التطبيقات التاريخية، مثل الشيخ حسين علي المنتظري، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف الصانعي، والشيخ إبراهيم الجناتي وغيرهم.