السؤال: هل أنّ حكم الضلال يختصّ بالكتاب المؤلَّف أم يلحقه المؤلِّف أيضاً من تبديع وتضليل؟ وما رأيكم بطرق مواجهة الضلال اليوم؟
الجواب: كتب الضلال حكمها عند مشهور الفقهاء هو ـ على أبعد تقدير ـ حرمة قراءتها لو خيف الضلال منها، وكذلك حرمة الحفظ، وحرمة النشر والتوزيع، وحرمة الطباعة والتكثير، وحرمة الدراسة والتدريس وغير ذلك، فلا معنى لجعل حكم كتب الضلال سارياً على المؤلّف نفسه. لكنّ الفقهاء الذين يؤمنون بهذه المنظومة من أحكام كتب الضلال من المنطقي أن يحكموا مثلاً بحرمة إعانة من يملك فكراً ضلاليّاً من نشر فكره أو الترويج له أو مساعدته فيما يراه من ضلال، أو تقويته وتمكينه وغير ذلك؛ لوحدة المناط والملاك في الموضوع عندهم في كثير من الأحيان. بل قد ورد في بعض الروايات أو حكم به بعض الفقهاء عن أصحاب البدع ما يفيد مهاجمتهم وغيبتهم وتسقيطهم وتشويه صورتهم والقدح فيهم وفي مقالاتهم، وكذا مقاطعتهم وعزلهم اجتماعيّاً، بل وبهتانهم وسبّهم وغير ذلك، بهدف إسقاط فكرهم ومشاريعهم الموسومة بالضلال.
إنّني أعتقد بأنّ هذا الموضوع ملتبس جدّاً وغائم وضبابي، وقد بحثت في دروسي بالتفصيل عن مسألة كتب الضلال، وما بدا لي بنظري القاصر هو أنّ هذه القضية لم يثبت منها إلا المقاصد التي رسمتها الشريعة فيها، أي عدم وقوع الناس في الكفر والضلال، أمّا كيفية مواجهة الكفر والضلال فهذا شيء لم تثبت له آليّة شرعيّة محدّدة، فالحرام هو إضلال الناس، والواجب هو هدايتهم وإخراجهم من الضلال ومواجهة الفكر الضالّ في المجتمع، هذه المبادئ ثابتة في الكتاب والسنّة، أمّا كيف نواجه الفكر الضال؟ وما هي الآليات؟ وأيّ طرق نعتمد؟ وهل وضعت الشريعة طرقاً ثابتة محدّدة لاعتمادها أم لا؟ فهذا كلّه لا وجود له في الثابت من النصوص من وجهة نظري المتواضعة، وكلّ ما يمكننا معرفته من النصوص هو طرق تمّ استخدامها سابقاً بحسب فضاءاتها الزمنية وإمكاناتها التأثيريّة، وليست أموراً إلزامية ثابتة بالعنوان الأوّلي الذاتي، وهذا ما ينتج ـ كما قلنا في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ جواز استخدام كلّ وسيلة هي في نفسها حلال، لمواجهة الفكر الضالّ والكافر، والمبدأ يقول بأنّه لا يجوز استخدام أيّ وسيلة هي في نفسها حرام لتحقيق هذا الغرض إلا إذا تزاحمت مصلحة الغرض مع مفسدة الوسيلة، وكانت المصلحة في الغايات أعظم من المفاسد في الوسائل، وانحصر الطريق بذلك، وتأكّدنا من جدوائيّته.
المشكلة الأخرى في هذا الموضوع هي هلامية مفهوم البدعة والضلال، كما تحدّثتُ عن ذلك مفصّلاً في مواضع أخر، فما هو الفكر الضالّ؟ وما هي المعايير للقول بأنّ هذا الفكر ضالّ أم غير ضال؟ وإلى ماذا يحتكم القائلون بكون هذا الفكر ضالاً أو هذا الشخص ضالاً؟ هذا موضوع مهم جدّاً، ومع الأسف لم يتمّ الاشتغال الاجتهادي الدقيق عليه، بل ترك للتداول العفوي العام، فإذا كان الاحتكام إلى كونه لم يصب الواقع في اجتهاداته فما من فقيه إلا وهو عند فقيه آخر ضالّ؛ لأنّهم يختلفون في الاجتهادات، وإذا كانت مخالفة المشهور فما هو الدليل على اعتبار من يخالف المشهور أو حتى الإجماع ضالاً أو مبتدعاً بحيث نرتّب عليه الآثار الشرعية المفترضة؟ وليس من فقيه أو متكلّم إلا وتجد عنده ـ ولو مسألة واحدة ـ خالف فيها المشهور بل الإجماع أحياناً. ولماذا يجوز نشر كتب السيد الخميني العرفانية وتصبح كتب ابن عربي ضلالاً، مع أنّهما ينتميان لمدرسة واحدة فكريّاً تقريباً؟! ما هي المعايير الدقيقة الصارمة في وضع العناوين على الناس وعلى الكتب والمقالات؟ والغريب أنّ السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة عندما يردّ على المحدّث البحراني في نقد الأخير لعلم أصول الفقه، يقول ـ العاملي ـ ما نصّه: «ومن الضلال المحض الذي يجب إتلافه على مذهب الشهيد الثاني، كلامُ صاحب الحدائق في المسألة في آخر عبارته، حيث افترى على أصحابنا وأساطين مذهبنا بأنهم اتبعوا الشافعي في تدوين الأصول استحساناً، وطوّل في ذلك غاية التطويل وملأ القرطاس من الأباطيل..» (مفتاح الكرامة 12: 209)، إنّه يرى ـ بناءً على وجهة نظر فقهيّة موجودة ـ أنّه يجب إتلاف بعض كتاب الحدائق للمحدّث البحراني؛ لأنّ فيه ضلالاً، فكيف يمكن أن نتعامل مع بعضنا بهذه الطريقة؟! وهل يمكن لي ـ إذا كنت أؤيّد مثلاً كلام البحراني ـ أن أحذف من كتاب العاملي بعض الصفحات التي أراها ضلالاً؟! هل هذا منطق سليم؟! والأمثلة على هذه النزعة متعدّدة أكتفي بهذا منها.
إذن، النقطة الأخطر والأكثر أهميّة هنا، هي النقطة التي لم يدرسها الفقهاء في تعريف الضلال وحدوده وتعريف البدعة وحدودها العمليّة؟ فما هو الضلال الذي يحرم حفظ كتبه؟ وما هو الضلال الذي يحرم نشره؟ وهكذا. نعم وفقاً للمعايير الدينية العامّة هناك أشياء يمكن بشكل قاطع إقحامها في مفهوم الضلال دينيّاً، مثل إنكار وجود الله. وهناك وفقاً للمعايير الإسلامية ما يعدّ ضلالاً بوضوح، مثل إنكار التوحيد أو إنكار نبوّة محمد، لكنّ هذه حالات محدودة وليس لها ضابط واضح. فهل يوجد مقياس حتى نضع من خلاله كتباً في عداد الضلال أو فكرة في عداد الضلال ونخرج أخرى؟ وما هو هذا المقياس؟
لو رجعنا إلى الجذر اللغوي ورأينا الضلال، سنجده مضادّاً للهداية ومرادفاً للتيه والحيرة وانحراف الطريق، وهنا سنقع في مشكلة عظيمة، وهي أنّ كل فقيه سوف يرى سائر الفقهاء ضالّين وستدرج كتبهم في كتب الضلال، وهكذا كلّ فريق كلامي أو فلسفي أو حديثي أو تاريخي أو سياسي أو غير ذلك سيرى الآخرين ضالّين؛ لأنّ المفردة تتحمّل هذا المعنى، فكلّ من أخطأ فقد ضلّ الطريق. إنّ هذا المفهوم يساوي سدّ باب الاجتهاد، ويكرّس القطيعة بين المدارس والاتجاهات الفكرية الدينية أينما كانت، وهو على خلاف اتفاق الأمّة، ولا يمكن لأحد القبول به، ولا نظنّ أحداً يلتزم بهذا المعنى، لكنّ عدم التزامهم عمليّاً يحتاج إلى تنظير علمي لتمييز ما هو ضلال عن غيره.
إذن فما هو الضلال؟
إنني أعتقد أنه يجب حذف هذه الكلمة فيما بيننا في العصر الحاضر على الأقلّ؛ وكذلك كلمة البدعة، حتى نضع لهما تعريفاً قانونيّاً واضحاً محدّدا مبرهناً عليه، لأنّهما سبب الإيهام، وإذا كانت بعض الأمثلة نجزم بدخولها في المفهوم هنا كإنكار وجود الله مثلاً فهذا لا يمنحنا معياراً ومقياساً يمكن اتّباعه من الناحية القانونية.
أما كيف نواجه الضلال اليوم في الداخل الإسلامي؟ فنحن أمام اتجاهين في هذا الصدد:
الاتجاه الأوّل: اتجاه القطع والتخاصم، وهو الاتجاه الذي يؤمن بضرورة قطع الارتباط مع ظاهرة الضلال وممارسة حجر اجتماعي وسياسي واقتصادي عليها حيث أمكن، وشنّ هجوم تسقيطي عليها بمختلف الوسائل المتاحة، كاستصدار فتاوى أو مصادرة أعمالها العلمية، والحيلولة دون مراجعة الناس لها، وحظر التواصل العلمي مع هؤلاء، وتشويه صورتهم كي تسقط من أعين الناس ولو عبر استخدام الكذب والبهتان، بل قد يصل الأمر إلى السجن والطرد والنفي والقتل وإغلاق مراكزهم ومصادرة أعمالهم ونحو ذلك، من قطع رواتبهم وطردهم من وظائفهم والتضييق المالي عليهم. هذا كله طبعاً الى جانب النقد العلمي والبحثي.
الاتجاه الثاني: اتجاه الوصل والتحاور، وهذا الاتجاه يرى أنّ الطريقة الأولى غير مجدية اليوم إلا في حالات نادرة جداً ومحدودة للغاية، وأنّ السبيل الأفضل يكون عبر استخدام سياسة ثقافية استراتيجية يمكن تلخيص بعض بنودها فيما يلي:
1 ـ القيام بنهضة فوريّة ثورية وشاملة في المراكز الدينية والمعاهد والحوزات العلمية، بهدف إعداد كادر علمي جديد ومتمكّن من الدراسات المعاصرة والمناخات الفكريّة العصرية التي تولّد أغلب هذه الأفكار، وهذا لا يكون إلا بنشاط يحتاج إلى سنوات متعدّدة، يكون جاداً ومدعوماً من قبل المرجعيّات الدينية العليا، وقد شهدنا بوادره في العقدين الأخيرين والحمد لله.
2 ـ العمل التربوي والأخلاقي على تكريس ما أسميناه في كتاب (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بمبدأ الوسطية في حمل الهمّ الديني، وهو المبدأ الذي يربّي العلماء والدعاة والعاملين على الهدوء النفسي والتخطيط الاستراتيجي والتخلّي عن الانفعال والتوتر، وترك الخطابات المتشنّجة والموتورة، واستبدال ذلك بالأساليب الهادئة والموضوعية والرصينة، كونها تملك تأثيراً أخلاقيّاً وتربويّاً أكبر.
3 ـ الترويج لاستخدام المنطق العلمي لا الأيديولوجي ولا المصلحي، وهو المنطق الذي علّمنا إيّاه القرآن الكريم في قول الحق ولو على أنفسنا، وفي قول الحقّ ولو لصالح من نتخاصم معه وغير ذلك، وهذا المبدأ عندما يتمّ العمل عليه في خطابنا الثقافي فسوف يساعد على خلق مصداقية كبيرة لنا، بدل أن نستخدم منطق تعتيم عيوبنا، وتعتيم حسنات الآخر، وعرض الآخر مشوّهاً، وتبرير أخطائنا وتبسيطها، وعدم الاعتراف بالحقّ وبنقاط الضعف، في مقابل عدم السعي لتبرير خطأ الآخر ولا حمله على الأحسن، مع تضخيم خطئه وعدم الاعتراف له بأيّ عنصر إيجابي.. إنّ هذا الكيل بمكيالين هو الذي يشوّه اليوم صورة الدين والمؤسّسة الدينية، إننا بحاجة للطريقة الهادئة في النقد العلمي حتى للاتجاهات الإلحادية، وأن لا يأخذنا الانفعال والضغط النفسي، بل نخطّط بهدوء وبشكل علمي سليم. إنّها حرب ليس المهم فيها الصراخ والضجيج بقدر ما المهم فيها هو الإعداد والتخطيط.
4 ـ السعي لاستخدام المنطق البرهاني وعدم الدخول في المنطق السجالي الجدلي إلا عند الضرورة؛ لأنّ المنطق البرهاني يقوّي بُنيتنا العلمية، ويقدّمنا أصحاب مشاريع فكريّة حقيقيّة في الأمّة، بدل المنطق الجدلي الذي يقدّمنا ردود أفعال غاضبة فقط.. وإنّ الجمع بين النقد والبناء ضرورة كبيرة لنا اليوم. وفي هذا الإطار أشير الى فشل منهج تقطيع النصوص والنقد (الجُمَلي) للفكر، وهو منهج مؤسف ساعد كثيراً في الحدّ من أفقنا الفكري، وحوّلنا إلى ما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى، فصار كل همّنا أن نكشف عقيدة فلان، ونستدرجه لنرى هل يقول بكذا أم لا؟ فإذا انكشف مزّقنا صورته وأسقطناه في الحياة العامّة. بل هذا المنهج سطّح من وعينا كثيراً بحيث عندما ندرس الفكر لا نعرف دراسته بطريقة شمولية استيعابية تحلّل منطلقاته ومساراته وتاريخه وبنياته التحتيّة وعناصره الأساسية، وإنّما ندرس فكر الآخرين عبر ملاحظة هذه الجملة أو تلك، أو هذه العبارة أو تلك، وهذا تراجع عظيم في الحياة العلميّة والأكاديمية، ينمّ عن فشل كبير في قراءة الأمور عند بعضنا بالطبع وليس الجميع.
5 ـ علينا أن نقدّم سياسة ثقافية استراتيجية تتحمّل الرأي الآخر، ولا تعيش التشنّج من الفكرة الغربية وغيرها، بقدر ما تعيش روح التأمّل فيها، ثم نقدها على تقدير عدم الاقتناع بها. إنّ الاعتراف بالآخر لا يعني تصحيح فكره، بقدر ما يعني أنّه موجود قائم يمارس فعل البحث وأنّ له الحقّ في ذلك، وأنّ المطلوب منّي اليوم هو الدفاع عن فكري بامتلاك الوسائل الأكثر تطوّراً منه في التأثير. لكنّ هذا لا يعني أننا نقبل بغير البحث العلمي مهما كان ضعيفاً من الآخر، فنحن لا نقبل بالسخرية او الاستهزاء أو التجديف بمقدّساتنا وهذه قناعتنا وحقّنا، لكنّ النقد العلمي من الآخر على أفكارنا لا يساوق السخرية دوماً، على أنّ من لا يريد أن يُستهزأ بفكره وعقيدته عليه أن لا يستهزئ بعقيدة الآخرين، وإلا فمن طرق الباب فعليه أن يسمع الجواب.
6 ـ لا نستبعد منطق المؤامرة، فالمسلمون يعيشون التآمر عليهم منذ قرنين وأكثر، لكنّ هذا لا يعني استخدام حجّة المؤامرة ـ دون دليل علمي وشرعي وقضائي ـ لاتهام الآخرين، ومن يثبت تآمره على الأمة والوطن فمن حقّنا محاكمته دون أن يرفّ لنا جفن.
أعتقد أنّه بمثل هذا يكون السبيل الأفضل اليوم لمواجهة كلّ ظواهر (الشواذ) الفكريّ و(الضلال) الديني في الأمّة، أما منطق التكفير والتجهيل والتقزيم والتفسيق والتخوين والتجريح والتعنيف فقد باتت له اليوم تأثيرات سلبية جداً على الأجيال الصاعدة. أقول: هذا ما أراه حراماً اليوم. ولكلّ أمر استثناء، ولا يجوز لنا التعويض عن ضعفنا وتخاذلنا ونقصنا بهجو الآخرين ولعنهم، فلنسأل أنفسنا سؤالاً: ألم يترك بعض الناس الدين بسبّنا وعنف خطابنا؟ إننا بحاجة اليوم لعلم المستقبليات لتكون لنا رؤية بعيدة المدى للمستقبل فنخطّط له من موقع القوّة لا الضعف إن شاء الله. والله ولي التوفيق.
وأشير أيضاً إلى أنّكم لو قصدتم من سؤالكم أعلاه أنّه هل كلّما كانت في الكتاب فكرة ضالّة إذاً فصاحب الكتاب ضالّ مضلّ؟ فجوابه بأنّه لا تلازم دائمي بين الأمرين.