السؤال: في واحدة من محاضرات سماحة الشيخ حبّ الله سمعته يقول: (لا يجوز بأن تبقى الدولة الإسلاميّة عشر سنوات دون حرب). ما صحّة هذا الرأي؟ وهل هو مشهور بين الفقهاء؟
الجواب: يقسّم الفقهاء الجهاد عادةً إلى:
أ ـ جهاد دفاعي، وهو الجهاد الذي يقوم به المسلمون ضدّ خصومهم على أساس الدفاع عن أنفسهم وبلادهم ودينهم ضدّ العدوان الذي ابتدأه الآخرون عليهم، ولا نقاش بين أحد من المسلمين في شرعية هذا الجهاد بل وجوبه على المسلمين كافّة وفقاً لطبيعة الوجوب الذي يلحق الجهاد عادةً.
ب ـ وجهاد ابتدائي، ويسمى بجهاد الطلب أو جهاد التحرير (تحرير الإنسان من الكفر) أو جهاد الدعوة، وهو أن يشنّ المسلمون الحرب مبتدئين بها، بهدف توسعة رقعة البلاد الإسلاميّة ونشر الإسلام وإدخال الآخرين ـ بطريقة أو بأخرى ضمن تفاصيل فقهيّة ـ في هذا الدين الحنيف. وهناك تفاصيل متعدّدة في الشروط والخصوصيّات التي تشرعن هذا الجهاد، من نوع اشتراط حضور المعصوم فيه، لكنّ المعروف بين العلماء المسلمين أنّه مشروع، بل واجب. فكثير من الفقهاء المسلمين يرون هذا الجهاد واجباً على الأمّة والدولة الإسلاميّة وليس فقط جائزاً، ومعنى ذلك أنّه يجب على الدولة الإسلاميّة والأمّة المسلمة أن تتوسّع وتفتح البلدان الأخرى وتخضعها لحكم المسلمين، حتى لو لم يبدأ الآخرون المسلمين بالحرب. وأرجو التنبّه جيداً لمسألة وجوب هذا الجهاد، فنحن لا نتكلّم عن أمر مشروع، بل نتكلّم عن وظيفة مجتمعيّة عامّة تجعل الأمّة الإسلاميّة في حال توسّع دائم. نعم يسقط وجوب هذا الجهاد حال عدم المقدرة، كما في مثل زماننا حيث المسلمون لا يقدرون على التوسّع، بل يتعيّن عليهم الدفاع عن دينهم وبلادهم وأوطانهم، في ظلّ العدوان المستمرّ من الاستكبار العالمي والصهيونية عليهم.
وهذا يعني أنّ الأصل في علاقة الدولة الإسلاميّة بسائر الأمم هو الحرب، وهو ما يسمّى بأصالة الحرابة، مقابل القول بأصالة السلم، لكنّ الفقهاء الذين يتبنون خيار الجهاد الابتدائي يرون أنّه يجوز للدولة الإسلاميّة وقف هذه الحرب لمدّة زمنية معيّنة،وفتح معاهدات سلام مع الآخرين. واختلفوا في المدّة الزمنيّة الأقصى التي يُسمح فيها لوليّ الأمر أن يوقع معاهدة سلام مع أيّ دولة أخرى، بحيث تُلزمه هذه المعاهدة بعدم شنّ المزيد من الهجمات التوسّعية الدعوية التحريرية، فقال بعض الفقهاء بأنّها أربعة أشهر، وقال فقهاء آخرون بأنّها سنة كاملة، وبلغ بها فريق آخر حدّ عشر سنوات، وهذا يعني أنّ الدولة الإسلاميّة لا تستطيع التوقيع على معاهدة سلام تمنعها من فتح حرب ابتدائيّة لمدّة أطول من هذه.
لكنّ هذا الرأي بدأ بالانحسار في العصر المتأخّر على جبهتين:
الجبهة الأولى: وهي جبهة المدّة الزمنيّة المسموح للدولة الإسلاميّة أن توقف فيها الحرب الابتدائيّة، حيث أخذ يسود بين كثير من الفقهاء وربما أكثرهم الرأيُ القائل ـ وهو رأي موجود قديماً أيضاً ـ بأنّه لا يوجد تحديد زمني، بل القضيّة موكولة إلى وليّ الأمر فيما يراه الصالح أو الأصلح للأمّة المسلمة وللإسلام والمسلمين، فقد يوقف هذا الجهاد خمسين سنةً، وقد يوقفه أكثر أو أقلّ من ذلك، تبعاً للمصالح العامّة التي تحتاجها الأمّة والدولة والدين.
الجبهة الثانية: وهي جبهة أصل وجوب بل مشروعيّة الجهاد الابتدائي، حيث بدأ يتداول الرأي القائل بأنّ هذا الجهاد غير مشرّع في الإسلام، أو أنّه لو شرّع فهو في حالة واحدة وهي قيام الدول الأخرى بعدم السماح للإسلام والمسلمين بحريّة الحركة على أراضيها لنشر الدين الحنيف، وهؤلاء الفقهاء يرون أصالة السلم في العلاقات الدولية لا أصالة الحرب.
من وجهة نظري الشخصيّة، ووفقاً لبحثيَّ المطوّلين في هذا الموضوع، والمنشورين في كتابي المتواضع (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، فقد توصّلتُ إلى عدم شرعيّة الجهاد الابتدائي بالعنوان الأوّلي مطلقاً حتى في عصر النصّ، وأنّ الجهاد الذي شرّعه الإسلام ومارسه الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم هو الجهاد الدفاعي فقط، لكن لا بمعنى الدفاع الشخصي، بل بمعنى الدفاع النوعي المجتمعي، قال سبحانه وتعالى: (..فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) (النساء: 90 ـ 91). وعليه فقد بنيتُ على أصالة السلم، فكلّ كافر فإنّ الأصل فيه أنّه غير حربي حتى يثبت أنّه يشارك أو يعاون على محاربة المسلمين، وكلّ دولة هي دولة غير حربيّة حتى يثبت عدوانها على المسلمين وبلادهم، ومن ثم فليس صحيحاً ـ فيما بدا لي ـ ما تعارف عليه بعض الفقهاء من أنّ كلّ كافر فهو حربيٌّ إلا ما خرج بمعاهدة أو بعقد ذمّة، بحيث أصّلوا أصالة الحربيّة في غير المسلم. وعلى هذا الأساس فقد رأيتُ بنظري المتواضع أنّ كلّ إنسان محترم النفس والمال، حتى يثبت أنّه حربيّ بهذا المعنى للحربي، فلا يجوز ـ بالعنوان الأوّلي ـ مصادرة أمواله أو أخذها بعنوان الاستنقاذ، بل لقد توصّلتُ في بحوثي في فقه الجهاد إلى أنّه لا يجوز أخذ مال الحربي إلا إذا وقع هذا الأخذ ضمن برنامج الدولة الإسلاميّة في المواجهة، أي لابدّ فيه من أخذ إذن الحاكم الشرعي؛ لأنّني ممّن يقول بأنّ الجهاد مطلقاً ولو الدفاعي ـ بغير الدفاع الشخصي ـ مشروط بإذن الدولة أو الحاكم الشرعي، وقد استعرضتُ ذلك في بحث آخر منشور أيضاً. هذا ما فهمته بعقلي القاصر والعلم عند الله.