السؤال: يتردّد إلى أسماعنا أنّ الحوزات العلميّة تمارس مختلف أنواع الضغوط على من تختلف معهم، فمن الضغوط النفسيّة إلى الطرد، إلى توقيف الرواتب عن المعارضين أو المنتقدين… وهذا السلوك يحدث حتى على مستوى بعض المرجعيّات التي تخرج عن ما هو سائد ومستقرّ في الحوزة. والسؤال هو: هل هناك ما نستطيع أن نطلق عليه ظاهرة قطع رواتب المشايخ عندما يطرحون أفكاراً جديدة مخالفة للسائد والمشهور؟ وهل هناك طرداً للناس من الوظائف بحجّة جريمة الرأي والأسلوب؟ وهل يؤثر اختلاف الأساليب بين العنف والهدوء على علاقاتنا في العمل؟ وهل هذه الظواهر كانت موجودة والآن انحسرت بشكل كبير بعد انفتاح الحوزات على العالم؟ (كميل الحسن، البحرين).
الجواب: أولاً: ظواهر الضغط التي تشيرون إليها موجودة في الحوزات العلميّة وليست بعيدةً عن الكثير من مراكز البحث العلمي والجامعي في غير المجال الديني أيضاً، وهي ليست ظاهرة جديدة، بل سبق في التاريخ أن قطعت رواتب بعض طلاب العلوم الدينية، وما يزال هذا الوضع موجوداً هنا وهناك بشكل نسبي، ولكنّه ليس واسع النطاق، بل فسحة الحريّة ليست بالبسيطة أبداً داخل الحوزات الدينية.
ثانياً: ينطلق هؤلاء الذين يتبنّون هذا النوع من خيارات المواجهة من منطلقات يرونها دينيةً، فهذه الأشكال من الضغط ـ عبر الحجر الاجتماعي، وعدم تقديم الدعم المادي الشخصي وغير الشخصي، ومنع استقبال هؤلاء في المحافل العلميّة، وإخراجهم من الحوزات هنا أو هناك، وعدم نشر أفكارهم في وسائل الإعلام، والضغط لعدم استقبالهم فيها، وغير ذلك من الطرق الكثيرة التي تصل حدّ الطرد من العمل والوظيفة. بل في هذا السياق عينه يأتي موضوع منع كتب الضلال ودعوة بعض موزّعي الكتب الضالّة للمنع عن نشر هذه الكتب، أو تحريم نشرها والترويج لها وهكذا و.. ـ هذه الاشكال تعدّ نوعاً من أنواع محاصرة البدعة ومحاربة المنكر، بعد استنفاد وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان والقلب، ويرى هؤلاء العلماء أنّ ترك هذا النوع من الأشخاص على حرّيتهم قد يؤدّي إلى نشر الضلال في المجتمع الإسلامي، وشعور الناس بأنّ الحوزات والمرجعيّات الدينية تقوم بتغطيتهم ومنحهم شرعيّة الوجود، الأمر الذي يقوّي من نفوذ أفكارهم الضالّة والمنحرفة وغير الدينية، فلكي تتمّ مواجهتهم واستئصال فسادهم وشأفتهم يجب محاربتهم بهذه الطريقة التي تضيّق الأمر عليهم، ولا تسمح لهم بالنفوذ هنا وهناك، فيكون هذا شكلاً من أشكال تطبيق شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد نجد أحياناً منطلقات أخرى لهذا الأمر، فعندما تقطع الرواتب قد يكون مبرّر قطعها عدم إحراز رضا الإمام عليه السلام بالصرف على مثل هؤلاء الأشخاص، وقد ذهب بعض الفقهاء المتأخّرين إلى أنّ الصرف لأموال الخمس يجب أن يكون في كلّ مورد يحرز فيه رضا الإمام المهدي، فعندما يشكّ المرجع في رضا الإمام بالصرف على مثل هؤلاء، فإنّه يمتنع من الصرف عليهم، وهذا ما ينتج قطعاً لرواتبهم في الحوزات العلميّة.
ثالثاً: لا تقف هذه الطريقة عند حدود التيارات المحافظة الدينية في الحوزات العلميّة، كما يحبّ بعض الناس أن يصوّر الأمر لنا، بل نحن نجدها أيضاً عند فرقاء يدّعون أنّهم يؤمنون بحريّة الرأي والتعبير، وينفتحون على تعدّد الآراء وتنوّعها. ونجد أحياناً بعض الحجج المنتشرة في هذا السياق عند هؤلاء أيضاً، من نوع أنّك عندما لا تطرد فلاناً من عمله عندك، فإنّ هذا معناه أنّك راضٍ عن آرائه، فيندفع ربّ العمل لرفع التهمة عن نفسه بطرد مثل هؤلاء، حمايةً لما يراه المشاريع الفكرية الناضجة التي يقوم هو بها. وقد رأينا في حياتنا أنّ فريقَي ما يُعرف بالمحافظين والإصلاحيين في المجال الديني، قد مارس هذه الطرق، ولو بشكل أخفّ عند الإصلاحيين نسبةً لغيرهم.
رابعاً: هذا كلّه يعني أنّ هذا الأسلوب في التعاطي ينطلق من مبرّرات علينا أن نطالعها بهدوء، حتى لو طالتنا هذه الأساليب بشخصنا ومن يحيط بنا، وفي تقديري المتواضع (رغم اعتقادي بعدم المانع من استخدام هذه الطرق في حالات نادرة للغاية)، فإنّ لديّ ملاحظة أساسيّة على هذا المنهج في التعاطي مع الأمور، وهي ملاحظة تنبع من الرؤية المستقبليّة من جهة، والرؤية لواقع المؤسّسة الدينية من جهة ثانية.
خامساً: أمّا الرؤية المستقبليّة فهو أن نسأل أنفسنا: هل هناك جدوى من وراء هذا الأمر على المدى البعيد؟ وهل هذا الأسلوب منتج حقّاً على المستوى نفسه؟ وهل قرأنا التاريخ وتأمّلنا فيه لننظر في سيرورة وصيرورة التحوّلات الكبرى وفي كيفية استيعابها؟ وهل طالع أحدنا التجربة المسيحية في العصر الوسيط وفي عصر النهضة، ليرى هل تنفع هذه الطرق ولو بعد حين؟ إنّني أعتقد بأنّ عصرنا الراهن لا تنفع معه مثل هذه الطرق، وهي مجرّد تكرار للمنطق الديكتاتوري في العالم العربي والإسلامي، وهو المنطق الذي شهدنا كيف أنّه ـ ولو طال عمره ـ ستثور عليه الناس يوماً وسيكثر خصومه يوماً بعد يوم في ظلّ عالم مفتوح معلوماتياً، وفي ظلّ مساحات عمل أوسع بكثير من الماضي.
سادساً: عندما نطبّق هذا المنطق في داخل مؤسّسة علميّة وتعليمية وبحثية، فهذا سيؤدّي في نهاية المطاف إلى نظام فكري أحادي القطب، وسيمنع طلاب العلوم الدينية من جرأة المعرفة والتفكير، وسيزرع ـ وقد رأينا ذلك ونحن شهداؤه للتاريخ ـ الرعب في نفوسهم، حتى ليخشى أحدهم أن يناقش في أيّ أمر من أمور المحرّمات الفكرية التي تتسع وفق هذا الوضع يوماً بعد يوم في مساحتها ودوائرها، فهل هذه السياسة الاستراتيجية ستؤدّي إلى بعث النشاط والحيوية في الجسم العلمي والبحثي داخل الحوزات العلميّة أم العكس هو الذي سوف يحصل وقد حصل؟ وهو أن يصبح الدين مع السياسة مع الأعراف ثلاثة أقطاب يحرم الحديث فيها، وهي الأقطاب التي تشغل أهمّ مفاصل حياة مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة. فلنرجع قليلاً للتاريخ لنرى كيف أنّ العصر البويهي (الشيعي) كان العصر الذهبي في تاريخ الفكر الإسلامي، وهو نفسه العصر الذي شهد فتح الأبواب أمام العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين وعلماء الطبيعيات والرياضيات للنقاش والإفصاح عن كلّ ما يريدونه، حتى أقرّ بذلك أكثر نقّاد التاريخ الإسلامي شراسةً، واعتبروا هذا العصر هو عنصر الأنسنة في تاريخ المسلمين. بينما خذوا عصور القهر والقمع للعلماء والمذاهب والفقهاء والفلاسفة وعدم الترحيب بحياة علمية زاخرة بالتنوّع، مثل العصر الأموي والسلجوقي (والعصر العبّاسي في محنة خلق القرآن وما تلاها) لنرى كم تراجع حال المسلمين معهم على الصعيد الفكري!! إنّ هذه الزاوية مهمّة أيضاً في دراسة المشهد بعيون تنظر للآفاق، ولا تنظر تحت أرجلها فقط.
لقد ذكر الإمام الخامنئي حفظه الله في رسالته التاريخيّة للحوزات العلميّة، أنّه لا يصحّ عندما يقوم طالبٌ أو فاضل أو عالم في الحوزة العلميّة بطرح رأي جديد، أن نثور عليه بعنف وهياج، بل أن نحضره لندوات بحثيّة وحلقات نقاش علميّة هادئة ولا تستهدف تصفيته الشخصية، فنستفيد من طرحه ونصحّح ما أخطأناه أو نصوّب له طرحه، ويرى الجميع أنّه يشكّل وجهة نظر لها خصوم نقّاد أيضاً وأنّ هؤلاء النقاّد حضاريّون وعلميّون في مواجهتهم للآخر، بدل أن نصبّ جامّ غضبنا عليه ونثور هائجين بلا وعي ضدّه، مما يقدّمه شخصيّةً مظلومةً للرأي العام، فيتمّ التعاطف معه، ونصنع من حيث لا نشعر شخصيّات لخصومنا ورموزاً يلتفّ حولها كثيرون!! إنّ مجرّد النقد الحضاري العلمي الهادئ لا يسمح بظهور فكرة المظلومية، على خلاف الهجوم التصفوي والتحريضي والتسقيطي. وشعوبنا العربية والإسلاميّة من طبيعتها أن تتعاطف مع المظلوم ولو بعد حين.
سابعاً: إنّنا نعرف الكثيرين من الذين لو لم نتعامل معهم بهذه الطريقة، لما ذهبوا إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ولو استخدمت طرق استيعابيّة معهم لما باتوا اليوم حجر عثرة أمام الفكر الديني، أو يشكّلون قلقاً كبيراً للمرجعيّة الدينية، بل لو نعموا بالحرية الفكريّة في أوساطنا لما اشتدّت الكثير من انتقاداتهم، ونحن نعرف أنّ طريقة الهجوم التي تستخدمها بعض الأوساط الدينية وأساليب التسقيط لا يستطيع الكثيرون ضبط أنفسهم تجاهها أخلاقيّاً، فيسقطون في الانفعال المضادّ الذي يزيدهم تشدّداً وإفراطاً في النقد، فنكون بذلك قد نقضنا غرضنا ولم نقدّم شيئاً. طبعاً أنا لا أريد أن أنزّه النقّاد أو أصحاب الأفكار الجديدة أخلاقيّاً، فقد رأينا من بعضهم ما يضحك الثكلى تارةً، وما يجعل الولدان شيباً أخرى، وكثير منهم أصحاب رغبة في الشهرة أو المواقع، لكن نحن نتكلّم عن وظيفة المؤسّسة الدينية تجاه هذا الواقع كلّه.
ثامناً: المحور الأساس هو ما أشرتُ إليه غير مرّة، ألا وهو الإقرار بتغيّر قواعد اللعبة في عصرنا الحاضر، يجب أن نقرّ بقواعد جديدة للعبة أفرزتها التوازنات والأوضاع الجديدة، وأنّ الأساليب القديمة للإقصاء لم تعد تنفع، بل سيكون لها مردودات سلبيّة على المدى البعيد وعلى جيل الشباب الصاعد. إنّ فهم قواعد اللعبة الحديثة ووعي تعقيدات الواقع وتوازناته، يمكنه أن يفيد كثيراً هنا في وضع آليات مختلفة لضبط عملية الاختلاف فيما بيننا. كما أنّ هناك نقطة مهمّة للغاية وهي تفهّمنا للنقد الذي يمارسه الآخرون، فنحن في عصر شبهة نوعية، وفي عصر شكّ نوعي، وفي عصر إحباط نوعي، وعلينا أن نترقّب حركات نقديّة ضدّ الفكر الديني ولو داخل الوسط الديني نفسه، فلو وعينا بهذه السياقات لتفهّمنا الكثير من الإشكاليات التي يثيرها الشباب، ومنهم الشباب الحوزوي نفسه، ولتعاملنا معها بمنطق الحوار المستوعب لا الهجوم والتصفية. إنّ وعي مرحلتنا الزمنيّة ضرورةٌ بالغة لكي نعرف أنّ حالات النقد الواسعة على الدين هي إفراز لتعقيدات كثيرة في مجتمعاتنا، وعلينا أن نتعامل مع هذه الظواهر كالطبيب الذي يفهم المرض ويعيه دون ممارسة وصايةٍ على أحد. وقلّة خبرتنا بهذه المجالات وعدم وجود وعي سياسي في إدارة الخلاف الفكري، يفضي عادةً إلى تصادمات رهيبة. إنّ حركة النقد الواسعة اليوم ـ لو قرأنا السياق الذي يحيط بالأمّة ـ لعلمنا أنّها يجب أن تقع وجوباً أنطولوجياً، فالفلاسفة العقليّون يقولون بأنّ نظام العالم نظام ضروري، وأنّ الأشياء محكومة لنظام الضرورة العليّ وقانون الحتميّة السببي، وهذا الذي نحن فيه منه، فلو فهمنا الواقع العام الذي تمرّ به الأمّة منذ ما يزيد عن القرن، لفهمنا بأنّ ظهور تيّارات نقد هو شيء حتمي، وعلينا الإقرار بواقعيّته وحتميّته، والتعامل معه على أنّه أمر واقع، لا أن نتعامل معه على أنّه شذوذ ليس من المنطقي أن يظهر، فهناك فرق بين التعامل الوجودي الأنطولوجي مع الظواهر الاجتماعيّة، ووعيها من حيث المبرّرات الوجودية لتكوّنها وظهورها، وبين التعامل القيمي الأخلاقي والمعرفي معها، فقد أحكم بخطأ تيار فكريّاً، لكنّ هذا لا يعني أن لا أتفهّم أسباب وجوده، أو أن أتفاجأ من ظهوره أو أن أتوقّع تلاشيه كليّاً.
تاسعاً: لو سألنا أنفسنا سؤالاً: عندما يكون هؤلاء النقّاد (الملعونون والمنبوذون!!) قلّةً نسبياً لا تملك سلطة سياسيّة ولا دينية في الغالب، ثم بعد ذلك تقوم بعض الحوزات والشخصيات العلميّة بمواجهتهم بهذه الطريقة، ماذا يؤشر ذلك لنا من زاوية اجتماعيّة ومعرفيّة؟ إنّه يدلّني على أنّ هذه الشخصية أو تلك تبدو عاجزة عن المواجهة الفكرية والانتصار فيها، وأنّها تريد التعويض عن هذا الضعف الناخر فيها بقمع الآخر وترهيبه ومحاصرته، هل هذه نقطة قوّة أو ضعف؟ لو كان الحقّ معي فلماذا أنا عاجز ـ مع أنّني أملك عبر الزمن أرقاماً فلكيّة من المال، وطاقات بشرية هائلة ـ عن مواجهة هذه التيارات بتأسيس مراكز أبحاث، وتربية أجيال جديدة من العلماء الفاهمين المتخصّصين، وإرسال طلاب العلوم الدينية إلى الغرب للتخصّص في الفكر الغربي، وتربية جيل علمائي متعمّق، وإخضاع العلماء لدورات التأهيل المتواصلة كلّ عام، وتأسيس القنوات والمجلات والفضائيّات والصحف والكتب والمعاهد التعليمية القادرة على نشر الفكر الحوزوي الذي يواجه هذه التيارات الموسومة (بالضالّة). لقد رأينا أنّ الحوزات الدينية انقسمت إلى فريقين في طريقة التعامل مع هذا الوضع، فبعضهم شمّر عن سواعده للتأسيس للدخول في هذه المرحلة بالعمل الجادّ والمضني، لتربية أجيال مفكّرة حقيقيّة (مطهّريّة، وصدريّة و…)، فيما رأينا البعض الآخر الذي ننتقده هنا قد جلس ينعى الإسلام ويصدر الفتاوى، دون أن يقوم بأيّ تطوّر معرفي منهجي يُذكر، بل ظلّ خطابه يعود لعصر الجدل المذهبي القديم، وتحكمه الثقافة التعبويّة أكثر من الثقافة العلميّة.
عاشراً: بعيداً عن المستوى المستقبلي، وبعيداً عن الضرورات المعرفيّة الحاليّة، لنذهب قليلاً إلى المستوى الأخلاقي الذي أفرزته هذه الآليّة من المواجهة التي اعتمدها بعضهم، فنحن لو ذهبنا نحو مواقع الشبكة العنكبوتيّة والفضائيات والكتب ولغة الصحافة الثقافيّة، لوجدنا أنّ الحرب بين المتديّنين تفرض على الإنسان أن يطأطئ رأسه خجلاً في بعض الأحيان، فالعبارات التي يتمّ تبادلها وتتنامى يوماً بعد آخر لتشكّل أدبيات الخلاف الفكري، تدخل في مأزق أخلاقي رهيب، عند الأطراف كافّة. وردّة فعل بعض الذين حوصروا وصدرت بهم الفتاوى وغير ذلك باتت عنيفة جدّاً!! فهل نجحنا(!) في الانتقال بأخلاقيّات الخلاف من مرحلة حسنة إلى مرحلة كارثيّة؟! وهل كانت الأساليب التي استخدمت ناضجة لتأهيلنا لمرحلة أكثر أخلاقيّةً لبناء خلاف صحّي وسليم؟ إنّ اللغة لغة شوارعيّة في بعض الأحيان وهي سوقية وهابطة، والغريب أنّ بعض الشخصيّات ينشر هذه اللغة الحوارية الهابطة في كتب، ويفتخر بأنّها منجز فكري له!!
حادي عشر: أمّا العذر الذي يقدّمه بعض المنفتحين في تضييقهم أو استخدامهم مثل هذه الأساليب في حقّ من يعمل معهم، سواء أفرط في إصلاحيّته أم كان محافظاً بينهم، فهو غير منطقي، بل لابدّ لهم أن يقابلوا السيئة بالحسنة، وأن يعطوا للآخرين علماً بأنّ أسلوبهم فيما بينهم لا يشبه أسلوب الآخرين، فهم لا يمارسون هذه الطرق مع من يعمل معهم بحجّة أنّه يحرجهم، بل يجب أن يربّوا الناس على أنّهم يحترمون اختلاف الآراء والأساليب فيما بينهم، رغم أنّهم لا يوافقون بعض من هو معهم في أفكاره أو أسلوبه؛ وذلك ليقدّموا أنموذجاً مختلفاً. نعم لو أخلّ من يعمل معنا بقانون العمل، فمن حقّنا أن نحاسبه، لكن لمجرّد أنّه يعمل معنا لا يعني ذلك أنّ من حقنا أن نعاقبه على أمور لا علاقة لها بعمله معنا واتفاقه الوظيفي، فليست الحركات الفكرية تنظيمات حزبية شموليّة بالضرورة، حتى نحرم الناس من التعبير عن آرائها التي نختلف معها بها، لمجرد أنها تعمل معنا في وظيفةٍ ما.
ثاني عشر: إنّني مؤمن بأنّ الحلّ لكل هذه المشكلة هو بمشروع بعيد المدى ـ بتنا نشهد إرهاصاته والحمد لله في بعض الحوزات المباركة ـ يبدأ من قرار تاريخي في الحوزة العلميّة يتنبّه له المراجع الكرام، بإعادة النظر في كلّ النظام التعليمي والبنائي والتربوي، وإخراج الحوزات وطلابها من قمقم الفقه والأصول إلى رحابة الفكر العالمي، فنحن بحاجة لفكر عالمي وليس فكر محلّي؛ لأنّ الفكر المحلّي ينتج إسلاماً محليّاً. وإلى جانب ذلك كلّه، البدء بإعداد أسراب من العلماء المتخصّصين في الجوانب الفكريّة المختلفة، والتأهيل النفسي الذي يخرجنا من أزمة الهويّة، والتفكير بعيد المدى الذي يدفعنا لوضع خطط استراتيجيّة لتفادي مشاكلنا الداخليّة. وأمّا البقاء على هذه السياسة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّني أخشى معه من نهاية مظلمة، والعياذ بالله تعالى وحده.