السؤال: أرجو من جنابكم النصيحة في موضوع طلب العلم, فهل تنصحون طالب علمٍ أنهى مرحلة السطوح العليا وبدأ بالبحث الخارج في لبنان بمتابعة الدراسة في إيران؟ فهذا الطالب يملك قدرات عالية في دراسته وهو متفوّق وذو همّة عالية جداً ويملك وعياً قلّ نظيره بين طلاب العلوم، وما هو متوفّر هنا في لبنان محدود ولا يكفي لإشباع هذا الطموح العلمي، لاسيما وأنّ الهدف الأساس هو خدمة الإسلام. ومن ناحية أخرى صورة الانتقال إلى إيران غير واضحة، فهكذا تغيير جذري يتطلّب تأنٍّ وبحث دقيق في ميزان المصالح, فنرجو من سماحتكم ـ وأنتم أهل الخبرة ـ إفادتنا بالوضع الموجود في إيران على صعيد الحوزات والمدرّسين ومعيشة طلاب العلم، وعن الخيارات المتوفّرة في مشروع كالذي ذكرناه، وعن مدى الاستفادة الممكن تحصيلها هناك. أرجو منكم النصيحة المثلى لأخٍ لكم وفي خدمتكم، وشكر الله سعيكم وجهودكم، والله وليّ التوفيق (طالب علم).
1 ـ من حيث المبدأ لا أنصح طالب العلوم الدينية الذي يدرس ما يُسمّى بالمقدّمات أو السطوح بالسفر إلى المدن العلميّة الكبرى، ما لم تكن هناك ظروف خاصّة تفرض ذلك؛ لأنّ ما هو المتوفّر في البلدان الأخرى ـ كلبنان أو السعودية أو البحرين أو أفغانستان أو باكستان أو العراق أو إيران أو نحو ذلك ـ من كتب وإمكانات وحوزات وطاقات وأساتذة على مستوى هذه المراحل لا يقلّ عمّا هو موجود في الحواضر العلميّة نفسها. نعم، قد تفرض الظروف السفر مثل بعض البلدان التي لا توجد فيها حوزات أساساً ولا أساتذة، ولا يمكنه السفر إلا إلى الحواضر العلميّة، أو أنّه إن لم يسافر فلن يتمكّن من طلب العلم بسبب الانشغالات الاجتماعيّة وغيرها ممّا يكون عادةً في بلد الإنسان ومنطقته، فلا يتوفّر له التفرّغ إلا بشقّ الأنفس.
2 ـ أنصح طالب العلوم الدينية في مرحلة بحث الخارج بالسفر إلى الحواضر العلميّة الكبرى، لا لأنّه لا يوجد أساتذة دراسات عليا في بلده، فأساتذة البحث الخارج الفضلاء موجودون في غير بلدٍ ولا يقتصر وجودهم على مثل مدينتي: قم والنجف أبداً، وبعض من هو خارج هاتين المدينتين أعلم وأفقه وأقدر ممّن قضى عمره فيهما، وإنّما لأنّ الحواضر العلميّة ـ لاسيما مدينة قم في زماننا ـ تتوفّر على عددٍ كبير من الأساتذة في مجال الدراسات العليا، ليس فقط في الفقه والأصول، بل وفي المواد العلميّة الأخرى كالفلسفة والعرفان والكلام والتاريخ والتفسير والحديث والرجال وغير ذلك. يضاف إلى ذلك تنوّع المشهد في المدن الكبرى، حيث تعجّ هذه المدن عادةً بالتيارات الفكريّة وتنوّع الأمزجة والميول والأفكار والاتجاهات، وهذا ما يفسح لطالب العلم مجالاً أوسع ـ لو أراد ـ للاطلاع على طرائق مختلفة في التفكير والفهم. هذا كلّه إلى جانب إمكانية تفرّغ الإنسان في هذه الحواضر للدراسة والبحث العلمي نتيجة إمكانيّة ضبط علاقاته الاجتماعيّة والتحكّم فيها، بما يصعب توفّره في مكان آخر إلا بشقّ الأنفس.
3 ـ إنّ السفر إلى الحواضر العلميّة في زماننا سيفٌ ذو حدّين، ففي الوقت الذي يوفّر للإنسان الكثير من النتائج الحسنة، إلا أنّه يمكن أن يزيده انغلاقاً ويجعل من دراسته في وطنه خيراً له، ففي مدينةٍ مثل مدينة قم، يمكن للإنسان الإمساك بأسباب المعرفة والتقدّم، عبر إتقان اللغة الفارسية، ومتابعة المشهد الفكري والثقافي في الحوزة وخارجها، وفي علم الفقه والأصول وما هو خارج أسوار هذين العلمين العريقين، لكنّ بعض طلاب العلوم الدينية المهاجرين إلى هذه المدينة لا يعرفون شيئاً أكثر من تلك الكلمات التي يدرسونها في الفقه وأصوله عند هذا الأستاذ أو ذاك، بسبب انغلاقهم الفكري وعدم انفتاحهم على اللغة، ولا على القضايا الفكريّة الأخرى. كما تجد بعضهم بدل أن يستفيد من أكبر عدد من الأساتذة يحصر نفسه لعشرين عاماً أو أكثر في الدراسة عند أستاذ واحد أو يضع على هذا الأستاذ أو ذاك (فيتو)، فيزيد ذلك من انغلاقه الفكري وتقوقعه. إنّ العزلة النسبية التي يعيشها طالب العلم في المدن الكبرى تسمح بخلق حالة انغلاق إذا لم يعرف كيف يدير حركته الدراسية والعلميّة والوقتية. وانقطاعه عن تحدّيات المجتمع بسبب هذه العزلة ـ رغم وجود مختلف وسائل الاتصال المعرفي ـ يُضعف من إحساسه بالمسؤوليّة الدينية والفكريّة والاجتماعيّة، فلا تجده يخرج من المدينة إلا لغرض الصلاة جماعة في قريته في شهري رمضان ومحرّم، أو قراءة العزاء، أو للتبليغ الموسمي هنا وهناك، وهذا كلّه تسبّب في خلق جيل منغلق فكريّاً، غريب في لغته عن لغة العصر، بعيد عن هموم الشباب اليوم، غير متابع لأزمات المعرفة الدينية في مشهدها الحاضر، وغير متحسّس لحجم الخطورة التي نعيشها في هذه اللحظة، مما يهزّ عنده ميزان الأولويات. ولهذا رأينا بعض الذين هاجروا من بلدانهم قد تبدّل حالهم من أشخاص كانوا واعين جدّاً حركيين متفاعلين مثقّفين عصريّين إلى أشخاص قتلتهم العزلة بهذا المعنى للكلمة، طبعاً مع التأكيد على أنّ هذه الحالة ليست عامّة أبداً، وإنّما أشير إليها للتذكير والتنبّه.
4 ـ بناءً عليه، فمن يريد الهجرة إلى المدن الكبرى، فإمّا أن يدير حركته بالطريقة الصحيحة التي لا تُفسد عليه فكره وتوجّهه ومنطلقاته وآليات عمله وأولوياته وأهدافه، أو أن يقلّل من الفترة الزمنيّة التي يقضيها في الحواضر الكبرى؛ لأنّه كلّما طال الزمان ازدادت هذه الحالة سوءاً عنده. والغريب أنّه رغم الجهود الضخمة التي لا حدود لها من قبل إدارة الحوزة العلميّة في قم جزاها الله خيراً، لخلق نماذج أفضل لطلاب العلوم الدينية، وتوفير الإمكانات الكبيرة لذلك، إلا أنّنا ما زلنا نشهد هذه الحالة في بعض الأوساط.
5 ـ مادام الإنسان في الحواضر العلميّة، فعليه دوماً أن يتواصل ـ جسدياً أو فكريّاً ـ مع المحيط الخارجي، ولا أنصح بالانقطاع عن الناس والمناخات الفكرية الأخرى مثل الجامعات والشباب، إلا لفترة زمنية محدودة جدّاً لو لزم، فطريقة الانقطاع التام التي تُحدِّثُنا عنها بعض كتب الأخلاق القديمة والتي يسعى بعضهم اليوم للدعوة إليها غير صحيحة في عصرنا إذا كانت صحيحةً في تلك العصور، بل لابد ـ حيث تتوفّر الإمكانات المادية ـ من السفر كلّ عام إلى بلده للتواصل مع الناس ومع النخب ومع قضايا الساحة في موطنه، وأن يضع نفسه في موقع التحدّيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية، أو على الأقلّ أن يكون متابعاً للأمور ولو عن بُعد. والتربية الأخلاقيّة الحقيقيّة لا تكون عادةً إلا في خضمّ التحدّيات الميدانيّة، لا في أجواء العزلة والانقطاع.
هذا، وأمّا عن الجانب المالي للعيش في المدن الكبرى، فهذا يختلف من بلدٍ إلى بلد، ومن شخص إلى آخر، لكنّني أعتقد أنّ من يقدر على العيش في لبنان فلن يكون الفارق عليه كبيراً للعيش في مدينة مثل مدينة قم، وعلى أيّة حال فطالب العلم بإخلاص يوفّر الله له إن شاء الله.