السؤال: هل تعتقدون أنّ النتاج الفكري لمثل السيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى المطهري والعلامة الطباطبائي والدكتور شريعتي وغيرهم من روّاد الفكر والنهضة يكفي لحلّ مشاكلنا اليوم أم لا؟ وما هو الموقف المطلوب من هذا النتاج؟ (عماد، العراق).
الجواب: لا شك في أنّ النتاج الفكري والإرث الذي تركه لنا أمثال هؤلاء العلماء والمفكّرين يحوي قدراً كبيراً من القيمة ومن غزارة الكم وجودة النوعية، وما زلنا في كثير من المواقع نعتاش على بقايا موائدهم الفاخرة التي تركوها لنا، لكنّ هذا لا يعني أنّ ما قدّموه هو نهاية الكلام والحلّ الأخير لكلّ مشاكلنا وقضايانا، فهم من جهة بشر يخطؤون ويصيبون، ومن الضروري ـ لكي تستمرّ عملية التنمية الفكرية ويتواصل النهوض ـ أن تقوم الأجيال اللاحقة بمواصلة الطريق الذي سلكه السابقون، وهو طريق الإبداع والتجديد والنقد البنّاء؛ لأنّ القيمة المضافة التي عند هؤلاء المفكّرين جاءت أيضاً من عقليّتهم المتحرّرة وجرأتهم النقديّة وطموحهم للإبداع والإتيان بالجديد أكثر من الشرح والتعليق والتلخيص والتكرار، فالعقلية النقديّة والتجديدية هي التي أتت بتفسير الميزان وبالأسس المنطقية للاستقراء و.. وليس عقلية الشروح والتلخيصات. إنّ معنى أنّهم بشر غير كاملين هو أن نسير على نهجهم فنعتبر النهج هو مجال الاقتداء بهم، وليس اعتبار نتائج أفكارهم مادّةً للتقليد لهم، فهذا هو الخطأ القاتل الذي يحصل في الأجيال التي تأتي بعد جيل الإبداع والتجديد، أن تعتبر هذه الأجيال إرث جيل الإبداع مادّةً للتقليد ومركزاً للدوران، بدل أن تعتبر المنهج والطموح الذي سار عليه الجيل السابق هو ميدان الاقتداء والاتباع.
ومن جهة أخرى، فإنّ القضايا والإشكاليات التي ظهرت خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وإن كان يمكن بالرجوع إلى إرث جيل التجديد أن نحاول حلحلتها، لكنّ ذلك لوحده لا يمكّننا من تقديم إجابات وافية لها، فالسيد الصدر ـ على سبيل المثال ـ كتب رؤيته في (البنك اللاربوي) أو في (اقتصادنا) من موقع عدم خوض التجربة، واليوم بعد أن خضنا التجربة الاقتصادية للمشروع الإسلامي لم يعد يمكن لمثل هذه الكتب حلّ المشاكل الناجمة عن مرحلة ما بعد التجربة العمليّة؛ لأنّ هذه المشاكل باتت كثيرة جدّاً ومتدفّقة باستمرار، وكثير منها لم يجر التطرّق له في منجز جيل النهضة، وإذا تمّ ذلك فبشكل عام غير تفصيلي، بل إنّ بعض طروحات جيل النهضة ثبت فشلها بعد خوض التجربة والقيام بالدراسات النقديّة اللازمة، وهذا كلّه أمر طبيعي تنبّه لبعض جوانبه السيد الصدر نفسه في بحوثه الاقتصاديّة. كذلك الحال على مستوى الفكر السياسي، فالتجربة طرحت مجموعة هائلة من الموضوعات التي لم يخض السابقون فيها بشكل تفصيلي وجادّ، بل بعضها لم يكونوا ـ فيما يبدو ـ ملتفتين إليه أساساً، وهذا يعني أنّ تدفّق الوقائع وكثرتها وجدتها لم يعد يكفي في الجواب عنه تلك الخطوط العريضة ـ نسبيّاً ـ التي سبق للجيل الماضي أن قدّمها مشكوراً. وهكذا الحال على الصعيد الفلسفي والفكري، فأغلب موضوعات علم الكلام الجديد وفلسفة الدين لا نجد لها حضورا جادّاً في منجزات جيل النهضة، ونحن بحاجة لاستنباطها بطريقة تحليلية من نصوصهم المتناثرة هنا وهناك.
هذا كلّه يعني أنّ الاقتصار على منجز جيل النهضة والدوران حوله لا يكفي أبداً في حلّ القضايا الفكرية اليوم، لكنني أعارض القطيعة مع منجز هذا الجيل واستبعاده بالمرّة كما لاحظنا عند بعضهم؛ لأنّ المنطق الطبيعي للأشياء يستدعي المراكمة وليس الحذف، وعملية إقصاء منجزات هذا الجيل ستجعل خطواتنا التجديدية مبتورة، فعلينا من جهة أن ندرس هذا الجيل ونراجع ما تركه لنا ويكون له حضوره في أعمالنا العلمية، وفي الوقت عينه أن لا نجمد عليه ولا نعيش ذهنية التقديس والتأليه له، بحيث تصبح أقواله حجّةً في المخاصمات والمحاورات، فإذا تناقش اثنان احتجّ أحدهما على الآخر بأنّ الطباطبائي قال هذا أو بأنّ الصدر ذكره وهكذا، فليس هذان العالمان الجليلان ممّن يحتجّ به، وكما يقال: إنّ العلماء يحتجّ لهم لا بهم، وليست الحجّة إلا العقل السليم والنقل الصحيح.