السؤال: قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 11) ماذا تفيد هذه الآية؟ هل تفيد الوجوب أو الاستحباب لإعطاء الذكر مثل حظّ الأنثيين؟
الجواب: لست أدري أيّ المنطلقات هي التي دفعتكم إلى التساؤل حول دلالة الآية الكريمة على إلزامية قوانينها في الإرث؛ لأنّ المناقشين في هذا الموضوع متعدّدون، ولكل واحد منهم منطلقُه؛ لكنّني سأفترض أنّ الذي دفعكم للسؤال هو كلمة (يوصيكم)؛ من حيث إنّها لا تحوي دلالةً إلزامية حاسمة، فلم يقل: (يأمركم) أو نحو ذلك مما يوحي بالإلزام، بل قال: (يوصيكم)، وهو ما يوحي بأنّه نوعٌ من التوجيه الأخلاقي، كما ذكره بعض الناقدين. وسأقتصر في جوابي على هذا الجانب؛ لأنّ آيات الأرث توجد جوانب عدّة تثار حولها في قضيّة الإلزام والتاريخيّة وغير ذلك.
ولعلّ الصحيح هو أنّ كلمة (يوصيكم) هنا لا تبطل استفادة العنصر الإلزامي القانوني، انطلاقاً من عدّة عناصر ملتقية، أذكر أبرزها:
أ ـ إنّ كلمة (يوصيكم) تدلّ في اللغة على العهد. وصّى فلان فلاناً بكذا وكذا أي عهد إليه (انظر: لسان العرب 15: 394 ـ 395)، وذكر الراغب الإصفهاني أنّ الوصية تدلّ على التقدّم إلى الآخر بشيء يعمله الآخر مقترناً ذلك بالوعظ (المفردات: 873)، ففيها طلب شيء من الآخر، بصرف النظر عن النقاش مع الراغب الإصفهاني في ضرورة شرط الوعظ، إذ قد يقال بأنّه لا شاهد عليه من كلام العرب كما قيل. وهذا يعني أنّ هذه الكلمة كما تحتمل إلزام الآخر بفعلٍ مع قرن هذا الإلزام بوعظ، كذلك تحتمل ـ على أبعد تقدير ـ عدم الإلزام، فلا دلالة فيها على عدم الإلزام بالضرورة حتى تكون شاهداً على عدم إلزاميّة قوانين الإرث في النصّ القرآني.
ب ـ إنّ القرآن الكريم استخدم هذا التعبير في مواضع عدّة يُعلم من القرآن نفسه ومن الشرع أنّها إلزاميّة، وذلك مثل قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا..) (العنكبوت: 8)، وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14)، وقوله سبحانه: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا..) (الأحقاف: 15)، وقوله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 130 ـ 132)، وقوله سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى: 13)، وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام: 151 ـ 153)، إلى غيرها من الآيات الكريمة المتعدّدة التي تُعطي أنّ التعبير المشار إليه يستخدم قرآنياً في الأمور العقدية والإلزامية أيضاً بشكل واضح ومكرّر وغالب، الأمر الذي يرفع من احتماليّة الإلزام في الآية الكريمة، وربما لهذا قال بعض علماء التفسير والكلام بأنّ الوصية من الله تكليفٌ وإلزام، فإنّ كلامهم هذا لا دليل عليه إلا أن يقصدوا أنّ الأدبيات القرآنية قائمة ـ ولو بنحو الغلبة والكثرة ـ على استخدام هذا التعبير من قبل الله في الإلزامات.
وبضمّ النقطتين السابقتين يصبح معنى الآية الكريمة: إنّ الله عهد إليكم أنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين و..، فهو يجعل هذه المواريث والفرائض مما أثبته الله في عهده للناس وللمؤمنين، فالله ذكر وبيّن للمؤمنين بأنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين وغير ذلك، وهذا تقرير للملكيات، فهو لا يقول: أعطوا الذكر كذا وكذا، بل هو يقرّر ما يستحقّه الذكر وما تستحقّه الأنثى وما تستحقه الزوجة وما يستحقّه الوالدان، فهو بنفسه يُدخل في ملكيّة الورثة هذه المقادير، ويقرّر ذلك للناس ويُعلمهم به، فهذا مثل آية الخمس، حيث تفيد أنّ ما نغنمه فأنّ لله ولرسوله واليتامى و.. الخمس منه، فهو يقوم هنا بإنشاء الملكيّة لهذه الأصناف الستة المستحقّة، لا أنّه يعلن ملكيّتنا للخمس، ويطلب منّا أن نملّك هذا الخمس لهذه الأصناف الستّة، فتأمّل جيداً، ولهذا يرى كثير من الفقهاء المسلمين أنّه بمجرّد تحقّق الغنيمة يكون خمسها ملك الأصناف المستحقّة للخمس فوراً، والمطلوب منّا هو تسليم المال لمستحقّه، فقد ملّك الله ـ وهو المالك الحقيقي ـ هذا المال لهذه الأصناف الستّة، لا أنّه يطلب منّا أن نملّك نحن هذه الأصناف الخمسَ، بل يجب علينا تسليمهم ما ملّكهم الله سبحانه.
ج ـ لو تأملنا سياق آيات الإرث (السياق القريب والبعيد) من سورة النساء، للاحظنا احتفافها بما يفيد الإلزام بشكل واضح، فبعد ذكر أحكام الإرث مباشرةً قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء: 13 ـ 14)، فالآيات تتوعّد بالعذاب على من تعدّ حدود الله التي منها قوانين الإرث بظاهر مطلع الآية، ومن الواضح في النصّ القرآني أنّ حدود الله ذات طابع إلزامي يمنع تعدّيه قال تعالى: (…وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة: 187)، وقال سبحانه: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229). وهذا كلّه يؤكّد أنّ قوانين الإرث التي جاءت في سورة النساء ذات طابع قانوني يمنع تعدّيه قرآنيّاً.
كذلك فلنلاحظ قوله تعالى في بدايات سورة النساء قبل أن يشرع في بيان الفرائض والمواريث بالتفصيل، حيث قال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء: 7)، فالآية تثبت نصيباً، وهو يستبطن منح الحقوق، فما تقدّره الآيات المفصّلة بعد ذلك إنما هو كشف أو تعيين لحقّ الرجل والمرأة والوالدين والأبناء في الميراث، وتجعله مفروضاً إمّا بمعنى مبيَّناً كما سيأتي تفصيله في الآيات اللاحقة، أو بمعنى ثابتاً وواقعاً ومتحقّقاً، أو بمعنى مقدّراً ومعيّناً ومحدّداً، وعلى المعنى الأخير قام تعبير الفرائض في الفقه الإسلامي للإشارة إلى الميراث وأحكامه، فنجد الفقهاء يقولون: كتاب الفرائض والمواريث.
ولننظر أيضاً إلى آخر سورة النساء، حيث قال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء: 176)، فإنّ التعبير بقوله: (أن تضلّوا) يوحي أنّ غير هذا فيه ضلال، وهو ما يعزّز احتمالية الإلزام أيضاً. فالسياق القريب والبعيد لنصوص الإرث القرآنية يقرّر بشكل حاسم سلسلة حقوق وملكيات ثابتة لمن عيّنتهم وتكلّمت عنهم هذه النصوص، وهذا كلّه يعطي دلالة على العنصر الإلزامي الناتج عن إثبات الحقوق والحصص، وليس على الاستحباب.
والنتيجة: إنّ دخول تعبير (يوصيكم) في آيات الإرث لا يضرّ بدلالة نصوص الإرث القرآنية على الإلزام القانوني، بل هي دالّة من هذه الناحية، والعلم عند الله.
شيخنا لم تركتنا دون عنايتك مدة طويلة؟
لقد اشتقنا لنهل علمك
رجاءنا الا تنقطع عنا فيوضاتك
السلام عليكم
احسنت اخ عمار ، فأنا ايضا ومنذ مدة طويلة ادخل يوميا تقريبا على الموقع ، عسى ان ارى أسئلة جديدة قد أجيب عليها من الشيخ ، ولكن !!
عموما أضم صوتي لصوتك ونطلب من الشيخ الا يغيب هكذا غياب
أحسنتم شيخنا الغالي! الله يحفظكم
أيضا مولانا الآية مذيّلة بعبارة “فريضة من الله” وهذا كاف في المقام لإثبات الإلزام.