السؤال: في موقعكم المبارك وفي قائمة الأسئلة والأجوبة، وبالتحديد الأسئلة القرآنية والحديثية، يوجد هذا السؤال (تساؤلات حول طلب النبي إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى من الله سبحانه)، والسؤال الذي أودّ طرحه هنا يتعلّق بهذه الآية، وأعتقد أنّ له علاقة بموضوع الآية، وقد قرأته في إحدى المقالات لأحد المشايخ، وهذا هو مضمونه: إنّ لسؤال نبيّ الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لله تعالى حول إحياء الأموات وإماتة الأحياء علاقة بموضوع شبهة (الآكل والمأكول)، وهي شبهة فلسفية معروفة. حيث في إحدى المرّات ذهب نبي الله إبراهيم لأحد الأماكن، فوجد مجموعة من الأسود يثب بعضها على الآخر، فيأكله، فلنفرض أنّ الأسد رقم 1، يثب على الأسد رقم 2، فيأكله، فيأتي الأسد رقم 3، فيأكل الأسد 1، بعد أن أكل الأسد رقم 2، وهكذا مجموعة من الأسود يأكل بعضها بعضاً.. وليس شرطاً أن يأكل الأسدُ الأوّل الأسدَ الثاني بكامله، فقط قضمة أو بعضاً منه. بغض النظر عن واقعيّة القصّة، المهم لو أننا طبّقنا شبهة الآكل والمأكول على هذه القصّة، فسوف يكون هناك اختلاط بين أنواع هذه الحيوانات (الأسود)، ولو طبّقت على بني البشر مثلاً، كأن يموت إنسانٌ مؤمن، فتنبت شجرة تفاح فرضاً في مكانه، فنلاحظ أنّ مكوّنات هذه الشجرة هي من الإنسان المؤمن ومادّته العضوية بالذات، فيأتي إنسان كافر ويأكل تفاحة من هذه الشجرة، فسيصبح جزءاً من الإنسان المؤمن في جسم الكافر، وهكذا تسري الحالة من بدء خلق الإنسان إلى يوم القيامة، حيث كلّ الأجساد متداخلة، وإلى هذا يشير الخيام بقوله: كلّ ذرات هذه الأرض كانت أوجها كالشموس ذات بهاء، أجل عن خدك الغبار برفق فهو خدّ لكاعب حسناء. أي يقول الخيام: إذا أردت أن تزيح الغبار عن خدّك فترفّق في ذلك؛ لأنّه قد يكون خداً لامرأة حسناء، تكوّنت فيك بعد دورات ودورات في هذه الحياة، وأنّ هذا التراب هو ذرّات تلك الحسناء. نعود إلى قول نبيّ الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فهو طلب من الله أن يريه كيف يرجع الأجساد إلى وضعها الطبيعي، كلّ جسد على حدة وبكلّ خصوصيّاته، دون أن يختلط بجسدٍ آخر… وفي هذه الأثناء، قال الله تبارك وتعالى له: خذ أربعة أنواع من الطير واذبحهنّ واخلطهنّ بريشهنّ ولحمهنّ وضع كلّ جزء من هذا الخليط على جبل معين، ثم ادعُ تلك الطيور التي ذبحتها في البداية بأسمائها، فسوف تلاحظ بأنها تتجمع وتأتيك كما شاهدتها أوّل مرّة قبل الذبح، وهكذا يكون فعل الله يوم يبعث الناس من قبورهم، سواء تفرّقت الأعضاء والأجساد، وسواء ماتت في برّ أو بحر أو في أيّ كوكب أو مجرّة، فسوف يأتي بها الله، ويعيدها نشأتها الأولى، أي النشأة الدنيوية. أرجو منكم فضيلة الشيخ أن تعطونا رأيكم الشريف بهذا الكلام. وهل هو صحيح أم مجانبٌ للصواب؟ (محمد الدوخي، العراق).
الجواب: أولاً: الرواية التي أشرتم إليها موجودة فعلاً وهي معتبرة من حيث السند وفقاً للكثير من النظريات الرجالية، لكنّها رواية آحادية. ونصّ الرواية هو: عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: «لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض التفت فرأى رجلاً يزني فدعا عليه فمات، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات. حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم دعوتك مجابة، فلا تدعو على عبادي فإنّي لو شئت لم أخلقهم، إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف، عبداً يعبدني لا يشرك بي شيئاً فأثيبه؛ وعبداً يعبد غيري فلن يفوتني؛ وعبداً يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني. ثم التفت فرأى جيفةً على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البرّ، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء، ثم ترجع فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، ويجئ سباع البرّ فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فعند ذلك تعجّب إبراهيم مما رأى وقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى، هذه أممٌ يأكل بعضها بعضاً، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي ـ يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها ـ قال: خذ أربعة من الطير فقطّعهن، واخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضاً فخلط، ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءاً، ثم ادعهنّ يأتينك سعياً، فلما دعاهنّ أجبنه، كانت الجبال عشرة. قال: وكانت الطيور الديك والحمامة، والطاووس والغراب» (بحار الأنوار 12: 61؛ وعلل الشرائع 2: 585 رقم 31).
ثانياً: لو لاحظنا الرواية في نصّها المتقدّم الذي يعدّ الأقوى سنداً ومصدراً، لوجدنا أنّ الصورة التي قدّمها الله تعالى لإبراهيم كي يشرح له كيفية معالجة مشكلة الآكل والمأكول لا تتطابق مع المشكلة نفسها، فشبهة الآكل والمأكول لا تقوم على مبدأ الاختلاط، بل تقوم على مبدأ التداخل، وفرقٌ بينهما، فالاختلاط هو ما قاله الله لإبراهيم في شأن الطيور، حيث قال له: قطّعها واخلطها حتى لا تستبين، ثم ارم كلّ جزءٍ على جبل، فالله هنا ميّز كلّ قطعة فالتأمت مع سائر قطع كلّ حيوان المنتشرة على سائر الجبال، وهذا شيء لا علاقة له بشبهة الآكل والمأكول؛ لأنّ مشكلة الشبهة أنّ المأكول يتداخل مع الآكل ولا ينفصلان، فصار جزء المأكول جزءاً من الآكل، فمع من يُبعث؟ أمع الآكل أم مع المأكول؟! وأين يبعث لو كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً أفي الجنّة أم في النار؟! لا أنه وضع إلى جانبه بطريقة لا تمييز فيها، فمبدأ الاختلاط لا يساوق مبدأ التداخل الذي هو أساس مشكلة شبهة الآكل والمأكول، فلا أجد الرواية لو تأمّلناها متناً تحلّ مشكلة شبهة الآكل والمأكول، حيث إنّه لا عين ولا أثر للحلّ في قصّة الطيور، فكيف اقتنع إبراهيم بالحلّ من خلال الطيور لو كانت مشكلته هي الآكل والمأكول؟!
ولكن لو فهمنا من قصّة الجيفة التي على البحر أنّ إبراهيم لم تكن مشكلته الآكل والمأكول، بل مشكلته اختلاط أجزاء الحيوانات ببعضها نتيجة التآكل، فحيوانات البحر قسّمت بالأكل قطع الجيفة التي في البحر، ثم حصل تآكل بين حيوانات البحر نفسها، وهذا ما حصل مع حيوانات البرّ، وفي هذه الحال تضيع الجيفة، فلا نقدر على تمييز أين صارت أجزاؤها؟ فما في بطن كلّ حيوان هو طعام مختلط من الجيفة ومن لحم سائر الحيوانات المتصارعة، وسؤال إبراهيم هو كيف سيتمّ تمييز قطع الجيفة التي اختلطت داخل حيوانات البحر والبرّ، لا أنّه يسأل عن شبهة الآكل والمأكول.
ولتشبيه الموقف يمكن إعطاء المثال التالي: أنا أعطيت زيداً وعمرواً خمسة دنانير، فأخذ بكرٌ من زيد دينارين، ثم أخذ خالد من عمرو دينارين، ثم أخذ سعيد من خالد ديناراً، وأخذ جمال من بكر ديناراً، وأخذ فؤاد من بكر ديناراً ومن خالد ديناراً، وكلّ واحد منهم كانت في جيبه دنانير أخرى له، السؤال كيف نميّز الدنانير الخمسة التي أعطيتها أنا لزيد وعمرو؟ هذا هو سؤال إبراهيم، وهذا السؤال يتناسب مع جواب الله تعالى عبر الطيور. ولعلّ ما سبّب تصوّر إقحام فكرة الآكل والمأكول في البَين هو تعبير إبراهيم بأنّه يأكل بعضها بعضاً، مع أنّ هذا التعبير عندما نضمّه إلى طريقة الجواب وتعبير الاختلاط الوارد بعد ذلك نفهم منه أنّ الموضوع ليس بالضرورة شبهة الآكل والمأكول، وإنّما هي شبهة كيف يمكن لله أن يميّز جثّة الميت التي انتشرت ويجمع أعضاءها مرّةً أخرى، وقصّة الطيور تؤكّد مبدأ الجمع والتمييز في مقابل مبدأ التفريق والاختلاط، وهو ما قد يشبه قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بنانه) (القيامة: 3 ـ 4)، فلا أجد الرواية ظاهرةً في الحكاية عن قصّة الآكل والمأكول المطروحة في كلمات الفلاسفة والمتكلّمين، بصرف النظر عن أصل هذه الشبهة ومديات صحّتها.
وخلاصة القول: إنّه لو كان سؤال إبراهيم عن الآكل والمأكول لما كانت قصّة الطيور حلاً لمشكلته، أمّا لو كان سؤاله عن التمييز والجمع فقصّة الطيور هي الحلّ المناسب لذلك، وفقاً لاعتماد الخبر الذي حكته لنا هذه الرواية، وإلا فإنّ الآية القرآنية لا تحكي لنا أبداً عن قصّة الآكل والمأكول كما هو واضحٌ منها.