السؤال: هل الآية القرآنية الشريفة: (يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد) تشير إلى أنّ جميع دائرة الوجود من أعلى مراتب الغيب إلى أدنى مراتب الشهود هي عين التعلّق والروابط ومحض التدلّي والفقر إلى القيّوم المطلق جلّت عظمته؟ وهل تدلّ على هذه النظرية الفلسفيّة التي طرحها صدر المتألّهين الشيرازي؟ (أبو ياسر، سلطنة عمان).
الجواب: هناك معنيان للفقر:
أ ـ المعنى الفلسفي المصطلحي الخاص، وهو المعنى الذي طرحته مدرسة الملاصدرا الشيرازي رضوان الله عليه، والمأخوذ في جوهره من الاتجاهات العرفانية والصوفيّة ومدارس وحدة الوجود ونظريات التجلّي وغير ذلك، والتي سبقت هذه المدرسة الفلسفيّة، وليس هذا المعنى شيئاً جديداً ابتكره صدر المتألهين، وهو يقع في سياقٍ مقابل للنظريات التي طرحت في بيان وجه حاجة المعلول إلى العلّة وطريقة العلاقة بينهما، فالمعلول ليس سوى محض الفقر والتعلّق بالعلة الفاعلية الوجوديّة الحقيقيّة، وهو في مقابلها لا شيء أو كأنّه لا شيء غير العلّة نفسها في رتبة من رتب وجودها، كالوجود المرآتي الذي ليس شيئاً آخر غير الشخص الواقف مقابل المرآة، فليس هناك شيئان مستقلان ونحن نربط أحدهما بالآخر بحبل بحيث يحتاج الأوّل للثاني، وإنّما هما أشبه بشيء واحد، أشبه بالصورة في المرآة، وبالظلّ لصاحب الظلّ وهكذا.
ب ـ المعنى العام، وهو المعنى اللغوي، ويعني المحتاج الذي لا يملك الشيء ويحتاج إلى غيره في الحصول على هذا الشيء، فزيدٌ فقير إلى عمرو، يعني أنّ زيداً محتاج لعمرو في أمرٍ من الأمور أو في كلّ أمور حياته، في مقابل الغنيّ عنه، بمعنى أنّه غير محتاج إليه، فـ (الفقير إلى) تقف على الطرف المناقض لـ (الغني عن).. وهذا المعنى اللغوي والعام تريده الآية الكريمة، فهي تؤكّد على حاجة الخلق إلى الله في كلّ شيء، في مقابل استغناء الله عن الخلق في كلّ شيء. وهذا المعنى للآية لا فرق فيه بين أن نقول بأنّ سرّ حاجة المعلول إلى العلّة هو الإمكان أو الحدوث الزماني أو الفقر الوجودي على اختلاف النظريات الفلسفيّة والكلاميّة؛ لأنّ جميع هذه النظريّات تقرّ وتعترف وتستبطن فقر المعلول للعلّة، أي حاجته لها؛ ولهذا بحثوا جميعاً عن سرّ حاجة المعلول للعلّة، فقال بعضهم: إنّ السر هو حدوثه الزماني، وقال آخرون: إنّ السرّ هو حدوثه الذاتي، وقال الصدرائيّون: إنّ السر هو فقره الوجودي، وقال آخرون غير ذلك، فالآية متساوية النسبة للجميع.
وليس إذا كانت الآية قد استخدمت كلمة الفقراء فهذا يعني صحّة نظرية الفقر الوجودي قرآنيّاً، كما قد يبدو لبعض قرّاء الفلسفة المعجبين ببعض المدارس الفلسفيّة؛ لأنّ هذا الاستخدام جاء من طرف الصدرائيين بعد نزول الآية وليس العكس، والتسمية مجرّد اعتبار وتواضع، فبإمكان الصدرائيّين أن يسمّوا نظريّتهم بنظرية التعلّق المحضّ ونظريّة الظلّ أو أيّ تسمية أخرى أرادوا. نعم لو قام أحد الفرقاء هنا بإثبات أنّ نظريّته هي التي تحقّق الفقر، وأنّ النظريات الأخرى تثبت غنى المعلول عن العلّة وغنى الخلق عن الله وعدم حاجتهم له.. لاستطاع أن يدّعي بأنّ سائر النظريّات لا تحكي عنها الآية؛ لأنّ الآية تحكي عن الفقر وليس عن الغنى، فأيّ نظرية فلسفيّة لا تعطي نتيجة الفقر (وليس مجرّد مصطلح الفقر) فهي مردودة قرآنياًّ، وهذا غير أن نقول بأنّ هذه الآية تثبت نظرية صدر المتألهين في بيان فلسفة العلاقة بين الخالق والمخلوق، وأنّها الفقر الوجودي المحض.
وانطلاقاً من لُبس المصطلح والتعبير، قلنا مراراً بأنّ أزمة بعض المدارس الفلسفيّة التي حاولت التقارب مع النصّ هي أنّها قامت أحياناً باقتباس التعابير الموجودة في النصوص وتسمية نظريّاتها بها، وقد لا يكون هذا بالأمر الضائر، بل المشكلة تكمن في أنّ بعض متعلّمي الفلسفة باتوا يتصوّرون ـ بعد مرور زمن ـ أنّ هذه النظريات هي نفسها التي تحكي عنها الآيات، نتيجة تأثير هذا التشابه التعبيري عليهم إلى جانب ازدياد نسبة غيابنا عن اللغة العربيّة التي نزل بها الكتاب الكريم، فيتمّ إسقاط المعطى الفلسفي على الآيات وليس العكس، في الوقت نفسه الذي نتصوّر فيه أنّنا نسقط المعطى القرآني على الفلسفة أو نكتشف المعطى القرآني من خلال الفلسفة، ممّا يخلق وهم المصالحة بين النصّ والعقل، وهذه نقطة بالغة الخطورة، فنتصوّر الملكوت الوارد في القرآن بأنّه ملكوت الفلاسفة والعرفاء وأنّ القرآن يحكي عن أفكارهم، دون أن يكلّف أحدنا يوماً نفسه بمراجعة اللغة والتاريخ! ونتصوّر أنّ علم اليقين وعين اليقين في سورة التكاثر هو نفسه عين وعلم وحقّ اليقين الصوفي والفلسفي، ونتصوّر التدلّي الذي تكلّمت عنه سورة النجم بأنّه المعاني التي استخدمها العرفاء والفلاسفة، وبذلك يتمّ هجر الفضاء التداولي التعبيري القرآني وإخضاعه ـ من حيث لا نشعر ـ لفضاء مختلف ولد بعد قرون من نزول القرآن الكريم، وليس هذا في القرآن فقط، بل قد جرى ذلك كثيراً في التعامل مع الحديث الشريف أيضاً والمجال لا يسع التفصيل وقد تكلّمنا عن هذا مراراً.
ولا يعني ذلك أنّ بعض النظريات الفلسفيّة التي اكتشفت لاحقاً لم تساعدنا في تحصيل فهم أوضح وأعمق للنص القرآني، فللفلسفة والعلوم العقليّة عامّة فضلٌ عظيم علينا في فهم الكثير من النصوص، لكنّ المهم هو أن نعرف الآليّة الدقيقة في عمليّة بناء العلاقة التفسيرية بين النصّ والفلسفة.. هذا هو مركز القصد والكلام.