السؤال: ذكرتم مرة العبارة التالي: (الشريعة هي التي يجب أن تتكيّف مع الواقع، وليس الواقع يتكيّف مع الشريعة)، فما هو المقصود من هذا الكلام؟ وما هو الفرق بين الواقعيّة الغربية وبين الواقعية التي يقبلها الإسلام؟ (K B، الكويت).
الجواب: لعلّ هناك خطأً في النقل، فما قلتُه هو ضرورة التركيز على مفهوم تكيّف الواقع مع الشرع، وليس فقط تكيّف الشرع مع الواقع، وعلى أيّة حال فالواقع والشرع يتوجّب عليهما التكيّف مع بعضهما، وليس وجوب التكيّف عبارة عن خطاب خاصّ بالشرع، ولتوضيح فكرتي القائمة على جدلية التكيّف بين الواقع والشرع (النصّ)، يمكنني القول:
1 ـ من الطبيعي أنّه لابدّ للفقه الإسلامي من التكيّف مع الواقع، ولهذا المفهوم عدّة مستويات تطبيقيّة وصياغات بيانية أذكر منها للتوضيح:
أ ـ ضرورة أن يتعرّف الفقه الإسلامي على طبيعة الظواهر المستجدّة على أرض الواقع؛ لكي يتمكّن من إصدار الأحكام بحقّها، فما لم يتعرّف الفقيه بشكل دقيق على الظاهرة الجديدة التي يريد أن يصدر القانون الشرعي في حقّها فسوف تكون أحكامه إمّا تجريدية غير واقعية أو منافية للواقع وغريبة عنه. وهذا جانب رئيس من فقه مستحدثات المسائل أو ما يسمّى بفقه النوازل، ولا يكفي في فقه النوازل أن نبقى مع الفروض التقديرية، بل لابدّ من البحث عن الوقائع بنفسها لتقديم الجواب عليها.
ب ـ إنّ الأحكام الشرعيّة تصبح فعليّة وناشطة عندما تتحقّق موضوعاتها الخارجيّة، وهذا معناه أنّ من الضروري لصبّ الحكم على موضوعه من معرفة الموضوع بشكل صحيح حتى نربط هذا الحكم بهذا الموضوع بطريقة لا تفضي بنا إلى وقوع مشاكل، فإذا كانت هناك تحوّلات تحدث في الموضوعات باستمرار فمن الطبيعي أنّنا مطالبون بوعي هذه التحوّلات بشكلها المعمّق، كي لا نضع الحكم الصحيح في نفسه في موضع غير صحيح، فتكون النتيجة خاطئة.
ج ـ على الدراسات الفقهية أن تهتمّ بالقضايا المعاصرة، بدل الاشتغال بقضايا إمّا صارت غير موجودة أو نادرة الوجود، وهذا جانب من منطق الأولويات المعاصر.
د ـ على الفقه الإسلامي أن يميّز على أرض الواقع بين العنوان الأوّلي والعنوان الثانوي، فلا يكفي الحديث عن الأحكام بعناوينها الأوليّة، بل لابد من رصد العناوين الثانوية المؤثرة اليوم لكي نضع الحكم في موقعه الصحيح. وكذلك على الفقه الإسلامي أن يلاحظ الأحكام في ارتداداتها الفردية والاجتماعية معاً لا الفردية فقط.
وخلاصة القول: إنّ الواقع سيال دوماً، وهو دفّاقة بالصور الجديدة والحالات الطارئة، ومعنى واقعيّة الفقه هو أنّه ينطلق من فهم الواقع فهماً عميقاً، ثم يذهب إلى النصّ ليعرف حكم الواقع من خلاله، لا أن يسقط التاريخ على الواقع فيخلط بين المفاهيم والصور والأحداث، دون وعي تفصيلي بطبيعة المتغيّرات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، حتى يكاد الفقيه وكأنه يفتي أحياناً لأبناء القرون الأولى، فالنصّ يريد أن يعرّفني على حكم الواقع، فلا يمكن للواقع المعاصر أن يغيب عن بالي وأنا في إطار الاجتهاد الفقهي اليوم ولأبناء هذا العصر.
2 ـ لكنّنا اليوم نسمع كثيراً عن ضرورة تكيّف الفقه مع الواقع، ولا نكاد نسمع شيئاً عن ضرورة تكيّف الواقع مع الشريعة، القضيّة من وجهة نظري أنّنا مسكونون بمفهوم العصمة، فبعضنا يرى هذا الفقه معصوماً كأنه لا خطأ فيه، وكأنّ هؤلاء العلماء والفقهاء لا يخطؤون، مع أنّهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر من نقص وزلل، فيما نجد بعضنا الآخر يرى عصمة الواقع، فكأنّ كلّ ما صار أمراً واقعاً مهيمناً فهو معصوم، وعليَّ أن أرضيه، وإلا تعرّضت للسخرية من التيارات الفكرية الأخرى!! ومعنى ذلك أنّ من المطلوب منّي ممارسة عملية تلميع يومي للشريعة، كي يرضى عنها فلان أو فلان، أو تعجب الغرب أو الشرق!! إنّني أجد في أوساطنا الكثيرين ممّن بات يقدّس الواقع، فكل شيء هو واقع فهو مقدّس، لا يجوز التفكير بالمساس به أو نقده، بل علينا إنتاج فقه يرضيه، وإنتاج مفاهيم إنسانية ودينية تتوالم معه. إنّني أرفض هذا اللون من التفكير رفضاً تامّاً، وأرى أنّه ينبعث من عقلية المنطق التبريري التكريسي، وليس من عقل تغييري نقدي جريء. قد تكون بعض الأحكام الفقهية اليوم غير متوالمة مع الناس، ليس لأنّ هذه الأحكام غير صحيحة بالضرورة، بل لأنّ الناس انحرفت حدّاً تغيّر فيه مزاجها وثقافتها وعقلها وحتى ذوقها السليم، بفعل التأثيرات الإعلامية العملاقة للقوى الكبرى في عالم اليوم، وعلينا أن لا نعيش عقدة إرضاء الآخر الذي بنى طريقة تفكيره على أساسيات هي في نفسها خاطئة من وجهة نظرنا، فمن يستقذر في ذوقه طعم العسل لا يمكنني أن أقنعه بأكله، بل عليّ الاشتغال على البنيات التحتية التي كوّنت ذوقه هذا.
رغم إيماني العميق بضرورة واقعيّة الفقه، وانتقادي الشديد لواقع الفقه الإسلامي اليوم في غير موقع ومجال، لكنّني لا أجد من المنطقي أبداً أن نطالب الفقه دوماً بإرضاء الآخرين، ممّن يملكون نفوذ الواقع وسلطانه في عالم الثقافة والفنّ والجمال والوعي والفكر. وإذا عجزتُ عن إقناع الآخر بجماليّة فكرتي؛ لأنّ نظامه الذهني مباينٌ لنظامي الذهني، فإنّ العجز عن إقناع الآخر بفكرةٍ ما ليس دليل صحّة هذه الفكرة، ولا هو دليل بطلانها أبداً. إنّني أدعو إلى معالجات متوازنة لهذه الأمور لا تريد أن ترضي مشهور الفقهاء ولو على حساب والواقع والأولويات والمقاصد الدينية العليا، كما لا تريد أن ترضي الواقع على حساب الشرع والقيم الدينية.