السؤال: جاء في بعض كتاباتكم العبارة التالية: رغم إيماني العميق بضرورة واقعيّة الفقه، وانتقادي الشديد لواقع الفقه الإسلامي اليوم في غير موقع ومجال… هل بالفعل تجدون الفقه اليوم بعيداً عن الواقع؟ هل من أمثلة لذلك جزاكم الله خيراً. (عبدالباري الدخيل، القطيف، السعوديّة).
الجواب: الفقه اليوم ـ وأعني به بالدرجة الأولى الجسمَ المركزيّ في الحوزات العلميّة والمتجلّي بدروس السطوح والخارج ـ ليس بعيداً عن واقع الحياة أبداً، لكنّه ليس قريباً منها بالمستوى المنشود، ولكي أخوض لكم في نماذج وأمثلة شيء مرهق، وهناك الكثير من الكلام في هذا الأمر، لا يسعه المقام ولا تسمح به الظروف، وربما احتاج إلى كتاب خواطر، فلو أخذنا دروس السطوح على سبيل المثال، فإنّ الطالب لا يقرأ فيها ولعدّة سنوات أيّ موضوع جديد فقهيّاً؛ لأنّ الكتب التي يدرسها ترجع إمّا إلى مائة وخمسين سنة سابقة، مع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري (1281هـ)، أو إلى خمسمائة سنة سابقة مع كتاب الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني (965هـ)، وليس هناك شيء آخر معتمد إلا نادراً. وقد رأينا مؤخّراً كتاباً جديداً في الفقه الاستدلالي للشيخ باقر الإيرواني والذي صدر بعد كتابه الأوّل، ليكون أحد الكتابين بديلاً عن اللمعة والثاني بديلاً عن المكاسب، نعم رأينا في هذا الكتاب بعض الجديد والاهتمام بمستحدثات المسائل، وهذا جهد رائع ومشكور من هذا الأستاذ الفاضل، لكنّني لا أعلم حتى الآن كم لقي كتابه الثاني البديل للمكاسب من رواج في الحوزات العلميّة.
أمّا لو قمتَ بجولة في ربوع دروس بحث الخارج (الدراسات العليا في الحوزة العلميّة)، فسترى هذا الأمر جيّداً أيضاً، فهناك اليوم على سبيل المثال ما ربما أسمّيه حمّى مباحث الحجّ، ومباحث الحج كما تعلمون طويلة ومعقّدة، حيث يبقى الدرس فيها لسنوات عدّة طويلة، وأحد المراجع رحمه الله درّس الحج في ثماني سنوات، انظر كم هي دروس العبادات وقم بإحصاء، وأتمنّى أن يتفرّغ مهتمّون لهذا الأمر للقيام بإحصاءات موثقة، فبدل أن أضيّع الوقت اليوم بكلّ بحوث الحجّ يمكنني أن أنتقي البحوث محل الجدل أو كثيرة الابتلاء أو المستجدّة الحادثة أو التي فيها رؤية جديدة عند الباحث، وهكذا الحال في الصلاة والطهارة، فأحد الأساتذة المعروفين درّس قبل حوالي اثني عشر عاماً كتاب الطهارة، وكنت أحضر عنده ـ قبل أن يشرع بالطهارة ـ كتابَ الخمس، ولمّا بدأ بكتاب الطهارة تركتُه، وقال لي بعض من بقي من الطلاب بأنّه درّس حكم طهارة ماء المطر ومطهّريته في خمس وعشرين محاضرة!! وهكذا نجد أنّ بعض الأساتذة درّس لشهور أو ربما سنة، بحوث فروع العلم الإجمالي الملحقة بكتاب الصلاة من (العروة الوثقى)، وهي فروع تمثل الفقه الفرضي، ومن أمثلتها أنّه لو شك الإنسان في الصلاة أنّه الآن قبل السجدة الأولى من الركعة الأولى، أو في حال التشهّد من الركعة الثانية أو أنّه يهمّ للصعود إلى الركعة الرابعة، فما هو الحكم؟ هذا وأمثاله كثير.
كم من درس في فقه البنوك في الحوزات اليوم وكم درس في فقه العبادات العام؟ أنا لا أتكلّم عن الاستفتاءات، بل عن البحوث والدراسات، كم درس في فقه الاستنساخ وكم درس في فقه صلاة الجماعة؟ كم درس في فقه العلاقات الدوليّة وكم درس في فقه الطهارة؟ كم درس في فقه الأقليّات وأهل الذمّة وكم درس في فقه الصوم؟ كم درس في قضايا الطبّ الحديث وكم درس في فقه الحج؟
وحتى عندما نذهب إلى الدروس المعامليّة والمالية والاقتصادية والاجتماعية، فنحن نجد السير على كتاب العروة الوثقى الذي تعود مسائله إلى ما يزيد عن التسعين عاماً! وقد درست عند أحد الأساتذة الفقهاء الموقّرين، ولمّا وصل بنا البحث قبل حوالي الست عشرة سنة إلى كتاب الشركة من العروة الوثقى، شنّ الأستاذ نقداً على كتاب الشركة من العروة، وقال بأنّه يحكي قضايا قديمة جدّاً، وتحدّث عن أنواع الشركات الجديدة وقارن بين فقه الشركة في العروة وفقه الشركة للسنهوري في القانون، ولكنّه عندما بدأ بالدرس سار على المنوال القديم؟ مثل هذا كثير في الحوزة، وبعض كبار المراجع المعاصرين المعروفين بالبحث الأصولي قال عندما وصل إلى بحث الإطلاق والتقييد عند الحديث عن مسألة اعتبارات الماهية بأنّ هناك الكثير من المباحث التي لا ثمرة عمليّة فيها عالجها العلماء، وكان متألّماً، لكنّه بعد ذلك قال بأنّنا سنسير على ما سار عليه العلماء!
بإمكانك اليوم أن تأتيني بكتب كتبوها في القضايا الجديدة وتقول لي: إنّ كلامك غير صحيح؛ فهذه الكتب موجودة، ولا أشكّ في هذا، لكنّني أكلّمك عن الجوّ العام والتيار السائد الغالب، فأغلبية الذين كتبوا في القضايا الفقهية الجديدة هم من القريبين جدّاً من الحركة الإسلاميّة بأطيافها أو من الجسم القانوني في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، وهم معدودون، كما يوجد في الجسم الجديد الشبابي متابعة معيّنة، ومشاركات في المجلات والنشريات والمؤتمرات والملتقيات، لكنّك عندما تصل إلى العصب الحيوي الحوزوي، وطبقة فقهاء الدرجة الأولى والثانية ترى العدد قليلاً، وترى أنّ مثل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي والعلامة السيد محمد حسين فضل الله والسيد محمود الهاشمي والسيد كاظم الحائري والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد صادق الصدر وغيرهم (من أبناء الجيل السابق!!!) قليلون جدّاً قياساً بالآلاف من أساتذة الحوزة العلميّة والمئات من الفقهاء والمجتهدين، الذين يكادون يلقون يومياً آلاف المحاضرات، أنا أتكلّم عن أمل بنهضة، وعن تحدّيات مرحلة، وليس عن مشاركات فلا يختلط علينا الأمر. وهذا الكلام الذي أقوله هو مضمون جملة من الجلسات الخاصّة لبعض الفقهاء الذين يبوحون به في الجلسات الخاصّة دون العامّة، ويبدون تألّمهم على هذا الواقع، وقد بلغني ـ بطريق قريب ـ أنّ شخصيّةً عظيمة وكبيرة في الأمّة اليوم، قالت في جلسة خاصّة لمجموعة من الفقهاء في قم قبل سنة تقريباً، وبكل صراحة وجرأة: إنّ الحوزة في مأزق، وإذا لم ننهض، فنحن نشرف على الاحتضار. هذا هو تعبيره تماماً بحسب ما نُقل لي والله العالم، وقد أباح أحد العلماء بالقليل، وسمع الناس منه هذه النبذة اليسيرة ـ بصرف النظر عن الموقف من قوله هذا ـ ولعلّه في هذه الشقشقة التي قالها ما يوجب العِبرة لمعتبر، والاستدراك لمنتبه، والاستعجال لمتباطئ، والتنبّه لغافل نائم.
كثيرون يقولون عنّي بأنّني متشائم وذلك منذ عشر سنوات، ويوماً بعد آخر يتأكّد تشاؤمي هذا إزاء الحالة الثقافية الدينية في مناخ المؤسّسة الدينية، وإنّني لأدعو الله وأرجوه من كلّ قلبي أن أكون مخطئاً فيما أنا عليه من هذا التشاؤم العقلي، لكنّه لم يستجب دعائي حتى الساعة. وأعرف أنّ الحق وسماعه ثقيل، فليسامحني من يرى في مقولاتي ثقلاً أو حملاً أو وزراً كبيراً، أو جرحاً نرجسيّاً يتألّم منه، وليلتمس لي العذر، فلعلّي أدعو الله له بأن لا يعيش ألم التشاؤم هذا. وقد يأتي يوم تتغيّر فيه الأمور، ويدرك فيه البعيد ما قاله القريب، أو تُجلى فيه الغشاوة عن العيون، تُري الإنسان الأشياء من حوله.
إنّني أعتقد بأنّ الحوزة العلمية قد شهدت نهضات كبيرة للغاية منذ بداية القرن العشرين وشهدت المؤسّسة الدينية الشيعية بالخصوص تطوّرات تفوق بكثير ـ من ناحية العمق ونوعية المعالجة ـ التطوّرات الفقهيّة التي شهدتها الحياة السنّية، هذه ليست مفاخرة مذهبية، هذه وقائع لمن اطّلع على الفريقين وقارن، لقد ظهر في المجتمع الشيعي عمالقة في هذا القرن نُحسد عليهم، لكنّ الأمور لا تكون إلا بالاستمرار والعواقب هي الموازين، إنّني أشعر بتراجع هذا المدّ على الصعيد الفكري والتوعوي والثقافي منذ فجر الألفية الثالثة، وهذا ما يدعونا لإعادة النهوض أو بالأحرى لإعادة الاستمرار بالنهوض نحو ما هو الأفضل، فأنا أتكلّم بالدرجة الأساسيّة عن العقد الأخير، والعقد الواحد في زماننا يساوي قرناً في العصور السالفة أو أكثر.
إنّني أعتقد بأنّه من الضروري أن ينكبّ كلّ أساتذة الدراسات العليا على القضايا الجديدة، ويتركوا القضايا القديمة لعشرة بالمائة منهم فقط، كي يستمرّ البحث فيها ليعين في كلّ جديد، وليس العكس، وسأنقل لكم تجربتي الشخصيّة كمثال رأيته بأمّ عيني، فقد كنت أوّل ما درّست البحث الخارج درّست كتاب الجهاد والعلاقات الدوليّة لثلاث سنوات، ورأيت هناك لسنين كيف أنّ هذه الملفّات لم تبحث إلا قليلاً، رغم أنّ القرن التاسع عشر والعشرين هما قرنا الجهاد والعلاقة مع الغرب، وقد أصبت بالذهول بيني وبين نفسي على قلّة البحوث الجادّة في هذا المضمار على مستوى التحقيقات الفقهيّة، اذهب اليوم وابحث كم كتب في العصر الحديث عن الثورة على الظلم في عصر الغيبة من وجهة نظر فقهيّة، ثورةً دامية أو مسلّحة، وأكرّر: بحث فقهي، ستجد أنّ النسبة قليلة لا تقارَن بحجم التحدّيات التي قمنا بها خلال النصف قرن الأخير، كان ينبغي للحوزات أن تواكب فقهيّاً أكثر ـ إلى جانب المواكبة التعبويّة والسياسية التي لا ننكرها ولا نُنقص منها، فكلامنا فقهيّ ـ هذا الموضوع، إنّك ستجد في موضوع الثورة عدداً قليلاً ممّن تعرّض للمسألة بشكل فقهي اجتهادي، كالسيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ حسين علي المنتظري وأمثالهم. لهذا كان عندي الإصرار على تدريس فقه الجهاد. وبعده رأيت أنّ فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فيه نقص كبير في دراساتنا الفقهيّة بل فيه إهمال كامل، ويعالج باختصار وبمرور عابر، رغم كثرة المشاكل اليوم بسبب العقل الدعوي وبسبب آليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعكفتُ على تدريسه لعام كامل وصدر والحمد لله في كتاب مستقلّ.
ثم رأيت بعد ذلك أنّ نختار موضوعات فقهيّة محلّ جدل أو فيها رأي جديد أو محلّ ابتلاء أو مستحدثة، فعالجت سلسلة من الموضوعات، مثل الاحتكار، والحقّ الجنسي للزوجة، وفقه التظليل وقضاياه في الحج، وفقه الجدال في الحج، وحلق اللحية، وحكم الحاجب في الطهارة، وقضيّة طلاق الخلع وفديته، وفقه العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، والموقف الفقهي من العلوم الفلسفيّة، والموقف من عمل المرأة وإشكاليّاته، وإخراج غير المسلم من الجزيرة العربيّة، وفقه البيئة وأسلحة الدمار الشامل، وفقه أهل البغي، والجهاد الابتدائي، ومرجعيّة الإفتاء للمرأة، والشهادة على الزنا، ووقف النقد وأوقاف النقود المالية، وفقه النظر غير المباشر عبر التلفاز وغيره من الأمور الحادثة، وفقه الاستخارة وقضاياها، وعبادية الضرائب الإسلاميّة، وفقه المصافحة بين الرجل والمرأة، واشتراط الإيمان والتشيّع في مستحقّي الخمس والزكاة وتأثيره على المواطنة، وفقه الحريات الإعلاميّة الفكرية والثقافيّة، وفقه الرمي في الحج وغير ذلك من البحوث ـ ممّا نشر أو لم ينشر بعد ـ التي أعتقد أنّ طريقة البحث الفقهي ينبغي أن تشتغل أحياناً على انتقاء المنتج منها.
نسأل الله لنا جميعاً التوفيق لكلّ ما فيه الخير، والهداية للصواب، وأن يصلح حالنا بحسن حاله، ويلطف بهذه الأمّة المرحومة.