السؤال: هل الفقر من الله؟
الجواب: الذي يفهم من النصوص الدينيّة أنّ الفقر له سببان:
السبب الأوّل: ولعلّه السبب الأكثر شيوعاً، وهو الإنسان نفسه، لكن ليس بالمعنى الفردي فقط، بل بالمعنى الجماعي العام، فالله وضع الخيرات في الأرض وأعطانا من كلّ ما نريد، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، كما هي التعابير القرآنية في هذا المجال، إلا أنّ إرادته وصول المال والغذاء للناس كانت عبر البشر أنفسهم، فلو أنّ البشر اهتمّوا بالفقراء والمحتاجين، ولو أخرجوا حقوق المساكين والمعوزين من أموالهم، ولو أنّهم اعتنوا بشكلٍ صحيح وعلميّ بهذا الأمر، ولو مرّت هذه الصدقات بأنواعها وتمّ استثمار ما شاء الله من الأوقاف الخيريّة التي لا يعلم كمّها اليوم ومقدارها غير الله (والله وحده يعلم كم هي الأوقاف المعطّلة في العالم الإسلامي اليوم!)، ولو كان الوسطاء في إيصال الأموال أمناء يقظي الضمير ويخشون الله فيما يفعلون، ولو كانت خططنا التدبيريّة في إيصال المال إلى أهله سليمة وصائبة.. لما وقع الكثير من الفقر الذي نجده اليوم في العالم، ولما رأينا أنّ اثنين أو ثلاثة بالمائة من سكّان الأرض يملكون ثمانين أو تسعين بالمائة تقريباً من خيراتها، فيما يعيش أكثر من نصف سكّان الأرض في فقر وجوع وفاقة؛ فالله سخّر الغنيّ لكي يحصل على المال، ولكنّه عندما أعطاه المال قال له بأنّ نسبةً من هذا المال الذي في جيبك ليست لك، وإنّما جعلتك وسيلةً ومعبراً لتوصل هذه النسبة إلى أصحابها الحقيقيّين، فالإرادة التكوينيّة الإلهيّة في رفع الفقر مرّت بإرادته التشريعيّة، التي تمرّ بشكل تلقائي بالإنسان نفسه، وهذا يعني أنّ الله أراد أن يرتفع الفقر بين البشر عبر قيام البشر أنفسهم وبإرادتهم بإطاعة أوامره التشريعيّة القاضية بكون بعض ما في حساباتهم البنكية ومحصولاتهم الزراعيّة وغيرها.. لغيرهم من المساكين والفقراء والمعوزين، وهذه نقطة مهمّة تعرّضنا لها في دروسنا التفسيريّة.
ولهذا جاء في مثل آية الخمس أنّ خمس الغنائم للفقراء والمساكين، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41)، فلم يقل بأنّه يجب أن تخرجوا من أموالكم الخمس الذي تملكونه أنتم، لتملّكوه للفقير والمسكين والمحتاج، بل قال بأنّ الخمس هو للفقير، ولهذا وجب عليكم إخراجه، فالحكم الوضعي هنا (ملكية الفقير للخمس) هو الذي أوجب الحكم التكليفي (وجوب تسليمه الخمس)؛ فلأنّه ملكٌ له بالجعل التشريعيّ الإلهي المالك للعالم ملكاً حقيقيّاً، صار يجب علينا تسليمه حقوقه الشرعيّة، ولهذا جاء في القرآن الكريم تعبير (الحقّ، والحقّ المعلوم)، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 15 ـ 19)، وقال تعالى: (.. إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 22 ـ 25)، ففي أموال المؤمنين حقّ معلوم للسائل والمحروم، فبعض ما في جَيبي هو حقّ لغيري، ولأنّه حقٌّ له لَزَمَني تسليمُ الحقّ لأصحابه، وهذه نكتة ظريفة انتبه إليها بعض الفقهاء، وهي توجب فهم قضيّة الضرائب الخيريّة في الإسلام ومبدأ التعاون والتكافل والتعاضد بطريقة مهمّة جداً. لاسيما على ما أبني عليه شخصيّاً من أنّ الضرائب الخيريّة في الإسلام لم تخصّص للفقير المسلم أو الشيعي أو السنّي، بل القرآن عندما تحدّث عن حقوق الفقراء لم يقم بالإشارة إلى فقراء المسلمين أو الشيعة أو السنّة، بل تعرّض لقضيّة الفقر ولعناوين الفقير والمحروم والسائل والمسكين وابن السبيل واليتيم والقريب المحتاج والغريم بطريقة عامّة لمواجهة هذه الظواهر في الاجتماع البشري، وإن كان الأداء يختلف فيها زمنيّاً تبعاً للأولويّات، وتبعاً لأولويّة حاجات المجتمع الإسلامي من حيث المبدأ لا من حيث التعيين، ولهذا ورد في بعض الروايات بأنّ لكل كبدٍ حرّى أجر، وقد طُبّق هذا المفهوم حتى على الحيوانات نفسها في إعانتها ومدّها بالماء والغذاء فليراجع.
هذا هو السبب الأوّل والرئيس للفقر، إنّه تمنّع الإنسان عن أن ينزل في مستوى عيشه قليلاً ليمنح بعض المحتاجين من ماله، فيرفع من مستوى عيشهم لتُردم الهوّة الكبيرة الفاصلة بين طبقات المجتمع حتى لو لم يمكن إلغاؤها تماماً، ولعلّ هذا هو معنى الحديث المنقول عن الإمام علي عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِك).
السبب الثاني: التدخّل الإلهي أحياناً لإيقاع الفقر والعوز والضيق على بعض الناس، وهذا ما يشرحه القرآن على أنّه ناتج عن عاملين:
العامل الأوّل: امتحان البشر، لاسيما المؤمنين منهم، وهذا ما نجده في مثل قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: 186)، وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 157). فهناك عوز وفقر ونقص مالي وغذائي قد يصيب الإنسان بهدف اختباره ووضعه في سياق فلسفة الوجود الدنيوي القائم على الامتحان، ليكون ذلك عنصر تقدّمه لو أحسن التعامل مع الظرف الابتلائي الطارئ، وقد يكون هذا الابتلاء ناتجاً عن تمرّد إنسانٍ آخر على شريعة الله تعالى، فليلاحظ.
العامل الثاني: عامل الغضب الإلهي على بعض الناس الذين انحرفوا عن الطريق الصحيح، ليريهم ابتلاءه ونتائج ما صنعوه، فينزل عليهم غضبه إمّا بمنطق طبيعي (كما لو كان سوء أدائه وتصرّفه في ما منحه الله من مال موجباً لفقره وفاقته، بذهابه خلف القمار والإسراف والتبذير وغير ذلك) أو بتدخّل خاصّ، ويُعلمهم بأنّهم لم يحسنوا التصرّف فيما فعلوه، وهذا له نماذج عديدة في القرآن الكريم، بعضها قصص افتراضيّة وبعضها واقعيّة، مثل قصّة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين، والتي وردت في سورة (الكهف: 32 ـ 46)، وقصّة أصحاب الجنّة الذين تمنّعوا عن التصدّق على الفقراء ببعض ما تُجنيه عليهم بساتينهم العامرة، كما جاء في سورة (القلم: 17 ـ 33)، وربما منها أيضاً قصّة قارون في تدمير ما يملك، بعد غروره بما حصل عليه من أموال، كما جاء في سورة (القصص: 76 ـ 83)، وغير ذلك.
وأعتقد بأنّ هذه الصورة الدينيّة تحظى بالكثير من المنطقيّة لو نظرنا إليها من زاوية خارج ـ دينيّة أيضاً، ويشارك الدينَ فيها الكثيرُ من علماء الاقتصاد والاجتماع وواقع الحياة المعاصرة، وإن كانت هناك بعض وجهات النظر الأخرى.
رائع جدا