السؤال: نحن نجد دائماً صراعات كبيرة بين شخصيّات فكرية وعلمية ودينية مرموقة، مثل خلاف الدكتور شريعتي مع خصومه، مع أنّ الطرفين يعملان لخدمة الإسلام، ورغم ذلك يصل بهما الأمر حدّ مهاجمة بعضهم بعضاً، وهكذا الحال لو أسقطنا الأمر على الواقع اللبناني، فالسيد موسى الصدر عندما وفد إلى لبنان وقف أمامه وعارضه علماء كبار كانوا معروفين في الساحة آنذاك قدّس الله سرّهم. سؤالي هو: هل الحقّ مبهم حتى على أصحاب العقول الضخمة والحرّة؟ فكيف بنا نحن؟! (ح. حجازي).
الجواب: عادةً يمكن أن نقول بأنّ أسباب الاختلاف ترجع إلى أحد عنصرين عامّين، وربما إلى الاثنين معاً أحياناً:
العنصر الأوّل: هو العنصر الذاتي، وهو ميول الإنسان وذاته ومصالحه التي تجرّه إلى إنكار الحقّ أو معاندته، ثم محاولة إقناع ضميره ـ إذا ما كان حيّاً أو صاحياً ـ بأنّ الأمور لم تصل إلى حدّ مخالفة القيم الأخلاقية أو الشرعيّة، وغالباً ما يبتلي الإنسان بهذه الحالة، سواء على مستوى حياته الفردية أم على مستوى الحياة العامّة. وكلّ فئات المجتمع ـ عدا من عصمه الله ـ يمكن أن تكون عرضةً لطغيان النفس وتسويلاتها وتلبيساتها، لاسيما على مستوى تزيين الباطل وتقبيح الحقّ.
العنصر الثاني: وهو العنصر الموضوعي، فليس كلّ الحقّ واضحاً بشكل دائم، بل تلتبس الأمور وتتداخل أحياناً، فيختلط الحقّ بالباطل، فترى كلّ فريق في كلامه حقّ وفي كلامه باطل، وغالباً ما يكون ذلك في حالات الفتن التي تأتي كقطع الليل المظلم، فيضيع الإنسان فيها ويصبح من المتوقّع أن يقع في أخطاء ومواقف غير سويّة، مهما كانت القصود سليمةً ومهما كان الضمير صاحياً.
عندما ندخل في القضايا الكبرى، في الفكر والدين والاجتماع والسياسة والأخلاق والقيم، فنحن نواجه بين التيارات المتنازعة واقعاً من النوع الأوّل والثاني، نعم لا يمكننا اتهام أحد في قصوده وميوله ما لم يثبت لنا ذلك بحجّة علميّة أو شرعيّة، لكن لا يمكننا نفي ذلك عن أحد. بل نحمله على الأحسن ونلتمس له العذر رغم احتمالنا القصود والميول السيئة. المشكلة أنّ الناس تربّت ولفترات طويلة على أنّ الكبار لا يمكن أن يختلفوا، وإذا اختلفوا لا يمكن أن يتنازعوا، ولكنّ واقع الحياة ليس كذلك، والتاريخ يصدع بأعلى صوته أنّ الصالحين قد يخوضون في صراع مرير حرباً ضروساً ضدّ بعضهم من حيث لا يعلمون، وهنا من الضروري الجمع بين ثقافة الحمل على الأحسن وثقافة الوعي؛ لأنّ الاستخدام غير السليم لثقافة الحمل على الأحسن يفضي إلى صيرورة الإنسان غافلاً وساذجاً، كما أنّ الإفراط في ثقافة الوعي والنقد يمكن أن يذهب بنا ناحية اتهام الناس بغير علم، فعلينا إذاً أن نؤسّس لذواتنا قناعةً بأنّ أحداً غير متعالٍ عن الخطأ إلا من عصمه الله، وأنّ من هم دون ذلك بشرٌ يخطؤون ويصيبون، ويطيعون ويعصون، ونحن نحملهم على الأحسن ولا نفحص في نوايا الناس، في الوقت نفسه الذي نحكم عليهم بأيّ تهمة لو كانت بأيدينا أدلّة دامغة عليها، ولا نبرؤهم من التهم عندما تثبت عليهم بحجّة أنهم من الكبار؛ فالدين علّمنا أنّه من الخطأ العفو عن معاصي الكبار وجرائمهم، وحصر التشدّد بمعاقبة الصغار إذا ارتكبوا معصيةً، فكلّنا أبناء آدم، وكلّنا في الحقوق والواجبات سواء، فمن أخطأ وثبت عليه الجرم، فليأخذ ما يستحقّ، بلا تمييز بين الكبير والصغير، ومن لم يثبت الجرم عليه لا يحقّ لنا إسقاطه أو إقامة العقاب عليه لمجرّد التهمة والظنّة والشكّ، لا فرق في ذلك أيضاً بين أن يكون كبيراً أو صغيراً، ولو أنّ كلّ واحدٍ منّا صان لسانه عن الاستعجال في التهمة أو الظنّة أو التبرئة لكنّا في خير كثير.