السؤال: أثناء حديثي مع أحد أصدقائي من أهل السنّة، قلت له: إنّ مذهباً يُستدلّ بصحّته من مصادر الخصوم لهو أحقّ أن يُتّبع، كما يفعل المسلمون عند الاستدلال بالإنجيل على النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وكما يفعل الشيعة عند الاستدلال بصحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة. ولكنّ صديقي وجّه لي سؤالاً يضرب في أصل هذه الفكرة، حيث قال: إنّ هذا منهجٌ انتقائي، تأخذون من كتب الخصوم ما تشاؤون وتتركون ما تشاؤون. وشأنكم كشأن الذين ذُكروا في هذه الآية: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). فماذا تقولون في صحّة المنهج الذي نسلكه؟ وهل إشكال صديقي في محلّه أم أنّ هناك ثغرةً فيه؟ وما هو الجواب على إشكاله؟ وختاماً، ما هو أفضل منهج بإمكاننا أن نسلكه في إطار علم الخلاف؟ مع الشكر والتقدير والتحيّة (محمد الموسوي، أميركا).
الجواب: يمكن أن يقع الاستناد إلى كتب من يقع الخلاف معهم في الفكر أو التاريخ أو الدين أو المذهب في حالتين:
الحالة الأولى: وهي حالة السياق الجدلي، وهذه هي الحالة السائدة في أكثر المخاصمات المذهبيّة بين المسلمين، فيقوم فريق بالتفتيش عن نصّ أو موقف أو حديث من كتب الفريق الآخر، ليسجّل عليه نقطةً يغلبه فيها، فيسعى الفريق الآخر للتفلّت من هذا التسجيل عبر الإنكار أو تأويل النصّ الذي تمّ الاستناد إليه فيه. إنّنا نلاحظ أنّ الكثير جدّاً من المساجلات والحوارات المذهبيّة بين المسلمين ـ ومنذ قرون ـ تقوم على هذه الآلية، بل الأمر كذلك عند الكثير من غير المسلمين، وقد شهدنا تنامياً كبيراً جدّاً لهذه الآليّة في سياق الجدل المذهبي في الفترة الأخيرة أيضاً.
وهذا السياق الجدلي لا يُنتج صحّة مذهبٍ ولا بطلان مذهبٍ آخر بالضرورة، فقد تعثر في كتب هذا المذهب على نصّ لصالح المذهب الآخر من أحد علمائه أو رواية منقولة عن النبي مثلاً، لكنّ هذا لا يُثبت صحّة مذهبك بالضرورة، ولا يعني أنّ الطرف الآخر لا يمكنه تخريج هذا الوضع أو تأويله وفقاً لآليّات من اللافت أنّ الجميع يستخدمها، فعندما يتمّ نقد مذهب آخر، فنحن نستخدم معه نفس الآلية التي يستخدمها هو معنا، ثم عندما نفرّ من إشكاله فنحن نقوم باستخدام نفس الطريقة التي يقوم هو من خلالها بالفرار من إشكالاتنا في نقطة أخرى. عندما تمسك الخصم بنقطة هنا فالخصم يمسكك بنقطة هناك، وعندما تفرّ أنت من نقطته يفرّ هو أيضاً من نقطتك بنفس طريقة فرارك، وهكذا تستمرّ عملية الجدل الذي لا ينتهي.
إنّ السياق الجدلي هو سياق إفحام، ومناظرة، وملاحقة كلمة هنا أو جملة هناك بطريقة مبعثرة، ينفع إعلاميّاً وعلى مستوى تسجيل نقاط، لكنّه لوحده لا يكفي لبناء عقائد مذهبيّة ولا دينية بالضرورة. وقد دعونا مراراً للخروج من السياق الجدلي في تعامل المذاهب مع بعضها، وما زلت أدعو لهذا الأمر؛ لاسيما وأنّ التمرّس على هذه الطريقة والاعتياد عليها واُلفة الذهن لها يفضي أحياناً لغياب المنهج العلمي البنائي الصحيح في تكوين العقائد والأفكار.
وهذا السياق الجدلي بتنا نجده أيضاً اليوم بين الإسلاميّين والعلمانيين، وبين الدينيين والملحدين، فيسجّل ملحدٌ على فكرةٍ دينية نقطةً، ثم يسجّل خصمه عليه واحدة أخرى، ويقبل هو بالدفاع عن فكرته بطريقة يرفضها هو بعينه في حقّ الخصم لو أراد الخصمُ الدفاع عن فكرته من خلالها. كما تقوم عملية الجدل على إخفاء الحقيقة في جزء منها، حتى لا يمسك الخصم بها نقطةً لصالحه ضدّنا، وهكذا إلى ما لا ينتهي من فوضى الجدل الذي لا يُنتج أفكاراً ولا مشاريع، وإن أنتج حراكاً.
الحالة الثانية: وهي حالة السياق البرهاني، وأسمّيه السياق البنائي مقابل السياق الجدلي الدفاعي، وفي هذه الحالة يمكن للنصوص الحديثية التي توجد في كتب الخصم أن تكون دليلاً علميّاً وليس مجرّد جدل وإفحام للآخر، وذلك لأنّنا عندما نتكلّم في التاريخ ـ ومنه الحديث الشريف ـ ونجد أنّ بعض الأحاديث جاءت في كتب الفريقين مثلاً، فيما مجموعة ثانية من الأحاديث جاءت في كتب فريق واحد، ومجموعة أخرى جاءت في كتب الفريق الآخر، فمن الناحية العلميّة يمكن للأحاديث التي جاءت في كتب الفريقين أن تحظى بدرجة أعلى من الوثوق بصدورها عن النبيّ؛ لأنّه رواها جميع المسلمين بمذاهبهم وطرقهم السندية عن النبي الأكرم، وهنا يمكن عندما نقوم بجمع هذه النصوص أن نشكّل منها قاعدة علميّة للانطلاق، بحيث نحاكم من خلالها (ومن خلال العقل والقرآن أيضاً) النصوصَ التي تفرّد بنقلها هذا الفريق أو ذاك.. إنّ هذه الآلية هي آليّة صحيحة من حيث المبدأ، ويمكن الاعتماد عليها. لكنّها لا تتمّ بهذه البساطة أيضاً كما يخيّل لبعضنا، إذ لابدّ من دراسة تاريخ الحديث، ودرجة تداخل الحديث عند المذاهب، وتأثّر بعضهم ببعض، وانتقال مرويّات بعضهم إلى بعض، ووجود مصالح مشتركة في النقل المشترك، ومديات فهم وتفسير كلّ فريق للنصّ المشترك، وغير ذلك من العناصر.
فنحن نتصوّر مثلاً أنّ المناخ العام في الدولة العباسية ـ زمن كتابة المدوّنات الحديثية الكبرى لأهل السنّة ـ هو مناخ سيطرة النواصب الذين ما كانوا ليقبلوا بمدح عليّ عليه السلام وأهل بيته، وبهذه الطريقة نتعامل مع أيّ حديث لصالح عليّ على أنّه حالة من الغريب أن تكون موجودة في مصادر أهل السنّة. لا أريد أن أدخل في تفصيل هذا البحث، لكنّ هذه الصورة النمطية تحتاج لبحث تاريخي معمّق ومبرهن، وليس لجمع بعض النصوص العابرة.
إذن، طريقة الاعتماد على ما في كتب الخصم ـ إذا تخطّينا الأسلوب الجدلي ـ يمكن أن تكونة نافعةً على مستوى الوثيقة التاريخيّة وتقويتها بسبب كثرة أسانيدها ومصادرها وتعدّد الناقلين لها على مستوى اختلاف توجّهاتهم، شرط تأمين مجموعة عناصر ضروريّة لقيامة عملية استدلالية صحيحة هنا. فما ذكره لكم صديقكم فيه جانبٌ من الصحّة وجانبٌ من الخطأ، والحالات تختلف.
وما أرجّحه وأدعو إليه نفسي وكلّ الباحثين والعلماء وطلاب العلم من جميع المذاهب هو اعتماد الطريقة البرهانيّة ـ ما فوق المذهبيّة ـ لبناء العقائد، بحيث نضع كلّ الوثاق التي قدّمتها المذاهب كلّها أمامنا، ثم نقوم بعمليّة دراسة ما فوق مذهبيّة وما قبل مذهبيّة وانتمائيّة لقيمة هذه الوثائق، بوصفنا باحثين ومؤرّخين محايدين، للنظر في نهاية المطاف في النتائج الأكثر وثوقاً والأرجح ثبوتاً من بين الفرضيات المتعدّدة. دون أن يمنع ذلك من تقديم الأجوبة الدفاعية عن الأسئلة الخاطئة، شرط استخدام الأجوبة ـ أيضاً قدر الإمكان ـ للأسلوب البرهاني، وليس الجدلي التأويلي التطويعي.