السؤال: عندما يطرح أحد العلماء مرجعيّته كيف يمكن معرفة أعلميّته؟ حيث نسمع ونقرأ أنّ من شروط التقليد الأعلميّة، هل أهل الخبرة هم المرجع ونحن نرى الاختلافات بينهم في أعلميّة المراجع الحاليّين! أم من خلال نتاج المرجع العلمي، مع أنّني لست أهلاً لتتبّع نتاجه العلمي، فما الحلّ؟ وهل يكفي حصول اليقين بأعلميّته؟ وهل الاختلاف في التقليد ظاهرة صحيّة؟ وكيف نوفّق بين هذا الاختلاف ونظريّة ولاية الفقيه وكذا نظريّة شورى الفقهاء؟
الجواب: سبق أن أجبنا عدّة مرات عن هذا الموضوع، وأنّ معرفة الأعلميّة ـ المشترطة في مرجع التقليد على القول بلزوم تقليد الأعلم ـ تكون من خلال الاختبار الشخصي أو من خلال الرجوع إلى قول أهل الخبرة في هذا المجال، فإذا اختلفوا ولم تترجّح البيّنات بينهم، يُقلَّد كلّ من هو مظنون الأعلميّة، وإلا فمحتمل الأعلميّة.
لكن لنترك الجانب الفقهي المحض الذي كرّرنا فيه الحديث، ولنذهب خلف الجانب الاجتماعي: هل ظاهرة الاختلاف في التقليد صحيّة؟ وإلى أيّ مدى يفترض بنا الوقوف عند هذا الموضوع؟
أمّا الاختلاف في التقليد وأن يقلّد كلّ واحدٍ من الناس مرجعاً أو عدّة مراجع يحتكم إلى اجتهادهم في عمله ما دام غير متخصّص في الشأن الديني، فهذا أمر طبيعي ومترقّب، ولا ينبغي أن نتعامل معه على أنّه حالة شاذّة، فكما نختلف في قضايا كثيرة ونراعي حدود الاختلاف من الطبيعي أن نختلف في الشخصيات التي نعتقد بأنّ الرجوع إليها في الشؤون الفقهيّة هو الصحيح. لكنّ المشكلة هي أنّنا نختلف بعنف ودائماً يحيط بنا ضجيج كبير عندما نتنازع في أمرٍ بسيط، فنلقي باللائمة على الموضوع المتنازع عليه بدل أن نتروّى قليلاً لنكتشف أنّ اللائمة لابد أن تُلقى على نهجنا في الاختلاف. لنفرض أنّه ثبت لديك أعلميّة المرجع الفلاني، لماذا تشعر بالهيجان والاندفاع لدعوة الآخرين لتقليده؟ لماذا هذا الإصرار على المركزيّة في التقليد؟ أرجو أن ندقّق جيداً، فنحن لا نتحدّث هنا عن الدعوة لمنهج فكري، بل نتكلّم عن الدعوة لموضوع التقليد، فقد تدعو لمنهج فكري معيّن، لكن ليس من الضروري أن تُلزم الناس أو تتشدّد عليهم في تقليد من تراه هو الأفضل، ولا داعي لتفسيق الناس لأنهم يختلفون معك في تعيين الأعلم، ولا مبرّر لممارسة القهر والضغط على الناس في موضوع شخصي اختياري بحسب طبيعته الأوّلية.
حسناً، لماذا يحدث هذا التجاذب إذاً؟
إنّ هذا التجاذب الصاخب يحدث عادةً لأجل قضيّة أخرى في نظري ليست هي تقليد هذا الشخص، وليست هي موضوع الأعلميّة بالضرورة، وهذه القضيّة الأخرى هي التي تزيد الموضوع حرارةً، وسأذكر نماذج على ذلك أوضح من خلالها وجود تبريرات متعدّدة لظاهرة التشدّد هذه والتجاذب في موضوع التقليد:
أ ـ التبرير السياسي الذي يرى أنّ هذا التشدّد مرجعه إلى العمل على تعزيز وحدة القرار السياسي المذهبي أو إيجاد التناغم والانسجام داخل الجسم الحزبي أو التنظيمي أو السياسي. إنّ هذا التبرير يرى في خلفيّاته الفكرية أنّ توحيد القرار المرجعي والسياسي هو ضرورة سياسية إسلاميّة عليا؛ لأنّ البُنية الفكرية التي يقوم عليها هذا التبرير تميل إلى مركزية واحدة للمشهد السياسي الشيعي، وترى ضرورة توحيد الناس تحت هذه الراية أو تلك.
وقد لا يكون الموضوع بهذه الطريقة تماماً، بل يكون بطريقة أنّ الجسم التنظيمي السياسي للحركة الإسلامية قد يُخشى عليه من بعض الارتباك لو تنوّعت أشكال التقليد، إذ سيؤدي ذلك إلى صيرورة الأفراد مختلفين ـ ولو احتمالاً ـ في بعض الأمور، وسيسمح للمرجعيّات الدينية الأخرى بأن يكون لها نحو نفوذ ـ ولو روحي ـ على أعضاء التنظيم، الأمر الذي يُستحسن أن لا يكون موجوداً، حمايةً للانسجام الداخلي الأيديولوجي والعقدي داخل الجسم. وفي بعض الأحيان قد تظهر مرجعيّة دينية تختلف سياسياً عن التوجّه السياسي للحركة الإسلاميّة، فيصار إلى جذب الناس عنها باتجاه المرجعيّة الدينية التي تتوالم أكثر مع الحركة الإسلاميّة، ويحصل بسبب ذلك نوع من محاولة تهميش تلك المرجعية لصالح هذه المرجعية أو العكس، فيظهر التجاذب في التقليد ويأخذ الموضوع حجماً أكبر من حجمه الطبيعي العادي في قضيّة الأعلميّة. وهكذا الحال في الذين يختلفون مع الحركة الإسلاميّة إذ تجد أيضاً عندهم تحفّظاً وتشدّداً في مرجعيّة بعض الشخصيات التي تقترب أو تتزعّم هذه الحركة الإسلاميّة أو تلك فيرفضونها ويشكّكون في أعلميّتها لصالح مرجعيّات تتوالم مع خطّ المعارضة مع هذه الحركة الإسلاميّة السياسيّة، ويتهمون أهل الخبرة الذين شهدوا لهذا المرجع أو ذاك بأنّهم قدّموا المصلحة السياسية على الشهادة الصادقة في موضوع الأعلميّة.
لقد كان وما يزال للدور السياسي أعظم الأثر في تنامي التنازع في قضيّة التقليد، وإظهار الأمر وكأنّه خلاف في موضوع الأعلميّة فيما هو في الحقيقة خلافٌ أعمق في مرجعيّة القرار السياسي بالمعنى العام للكلمة.
وإلى هذا المبرّر يمكن أن نُرجع أيضاً التجاذبات بين بعض المناصرين لمرجعيّات المدن العلميّة أو للمرجعيات القوميّة، فقد تجد بعض الأشخاص المتحمّسين لمرجعيّة معيّنة دون أخرى يهدف ـ في خلفيّاته الفكريّة ـ إلى الانتصار لمرجعيّة مدينة علميّة معيّنة على حساب مدينة علميّة أخرى، أو قوميّة معينة على أخرى؛ لما لذلك من ارتدادات على البعد السلطوي للمذهب أو الطائفة في هذا الموضوع أو ذاك. والبعد السلطوي له نماذج كثيرة لا نريد الدخول فيها، مثل أنّ نفوذ مرجع في بعض المناطق الغنية قد يوجب قلقاً فيما نفوذه في مناطق فقيرة لا يوجِد محفّزاً للتحرّك ضدّه، فحساسية المناطق التي يحدث فيها النفوذ تلعب دوراً في تشديد الصراع بين بعض المناصرين، وطرح موضوع أعلميّته في الأوساط العامّة.
ب ـ التبرير العقدي والفكري، وهو الذي يرى أنّ هذا التشدّد مرجعه إلى حماية الناس من الرجوع إلى مرجع آخر ثمّة شوائب ترتبط بعقائده أو منهجه الفكري والمذهبي، فقد تجد أنّ ظهور مرجع أثارت أفكاره أو مدرسته اعتراضاً في الأوساط العلميّة يسبّب في خلافات في قضيّة التقليد قد لا نجدها لو لم يكن هذا المرجع منتمياً إلى هذه المدرسة الفكرية أو العقديّة المعيّنة، فهناك مرجعيّات دينيّة لها تقليد محدود لا يثير أحد سؤالاً حول علمها ولا يعترض أحد على تقليدها، فيما نجد زوبعة من الجدل والنقاش تحتدم على تقليد شخص آخر لا يقلّ عن الأوّل علميّاً بشيء، وذلك بسبب الميول الفكرية أو العقدية التي يحملها الرجل الثاني. وفي الوقت نفسه نرى تيارات تقوم بتعويم شخصيّات علمائيّة للتقليد لا لشيء إلا لكون هذه الشخصيّات تنسجم مع الخطّ الفكري المختلف عن المشهور والمنسجم مع خطّها الفكري الخاصّ.
بل هذا الأمر تجده حتى في أصل علم أو اجتهاد الشخص، فما دام لم يطرح مرجعيّته أو لم يخالف التيارات العامّة الدينية أو السياسية.. فنادراً ما تجد من يناقش في علمه حتى لو كان شخصاً مشهوراً وفاعلاً وله جمهوره، لكن وبمجرّد أن يطرح ما يخالف السائد أو يخالف السلطة السياسية أو القوى الدينية النافذة أو نحو ذلك ممّا يضعه في إطار المنافس السلطوي، تجد باب الكلام مفتوحاً على مصراعيه في حجمه العلمي وأصل كونه مجتهداً بحيث لولا ذلك لوجدت إمكانية الشهادة له بالاجتهاد أسرع وأقوى أحياناً، وليس ذلك إلا للأسباب التي قلناها وأمثالها.
أكتفي بهذين الأنموذجين، لأؤكّد على أنّ درجة السخونة في الخلاف حول قضايا التقليد يقبع خلفها في كثير من الأحيان خلافٌ آخر سلطوي أو فكري أو عقدي، وأنّ ما نجده من تجاذب حول قضيّة (من هو الأعلم؟) وإشغال الناس في كثير من الأحيان بهذه الأمور بدل إشغالها بأمور أخرى، إنّما يرجع إلى شيء أعمق، وهو تصحيح الانتماء السياسي أو السلطوي أو الفكري أو العقدي أو نحو ذلك، فالمرجعيّات الدينية اليوم صارت أكثر تنوّعاً في ميولها الفكريّة من الماضي، فبينها المدرسيُّ وبينها السياسي ـ على اختلاف الاتجاهات السياسيّة ـ وبينها التقليدي وبينها التجديدي إذا صحّ التعبير، فلم يعد من يُطرح للمرجعية منتمياً لتيارات كلاسيكيّة محدودة، بل صارت المرجعيّة مسرحاً لأكثر من تيار مختلف عن الآخر اختلافاً كبيراً، والخلاف على مرجعيّتها وأعلميّتها هو في العمق خلافٌ على ميولها الفكرية وتوجّهها الديني أو السياسي أكثر من كونه خلافاً فقط على البُعد التفصيلي في قضيّة الأعلميّة.
معنى هذا كلّه أنّ المفترض بنا الاختلاف حول الأسباب الحقيقية لا الاشتغال أو إشغال الناس بالخلاف حول أمر سطحي نسبيّاً لا يشكّل في تقديري السبب الرئيس للخلاف في الأعلميّات، وبعبارة أخرى: إنّنا قد نغلّف خلافنا السياسي أو السلطوي أو الفكري بين التيارات بالخلاف على أشخاص على مستوى الأعلميّة، بحيث أضحت نظريّة تقليد الأعلم ضحيةً ـ في بعض الأحيان ـ لخلافنا السياسي والمنهجي. وما أقترحه هو تحرير موضوع الأعلمية من خلافنا السلطوي والمنهجي والفكري، وهو أمر بالغ الصعوبة عمليّاً.
ولا أعني بما أقول أنّ كلّ الخلافات حول التقليد ترجع إلى ما قلت، بل أريد التأكيد على الدور الكبير الذي تتركه القضية السياسية والفكرية على خلق مناخ الاختلاف في موضوع التقليد.
كما لا أريد أن أقول بأنّ بعض أهل الخبرة يدخلون هذا الموضوع بذهنيّة تشبه هذا أيضاً، حتى لا أقول بلا دليل ملموس قابل لتقديمه للآخرين، ولكنّني أعتقد بأنّ هذه العناصر لها تأثير عظيم جدّاً في كلّ مشهد البيّنات المتعارضة والخلافات العامّة بين المقلّدين اليوم، وأنّ هذا الخلاف لن ينتهي إلا إذا شعر فريقٌ ما أنّ موضوع التقليد لا يسبّب قلقاً بالنسبة إليه، كما لو كان المرجع الثاني داخل سلطة المرجع الأوّل، بحيث مهما رجع الناس إليه في التقليد فإنّه لا يشكّل خطراً على سلطته (لصغر حجم المرجع الآخر ونفوذه وتأثيره مثلاً)، ولهذا فإنّني أظنّ بأنّ هذا الصراع مستمرّ في الوسط الديني الذي ما يزال يحتكم لنظريّة تقليد الأعلم.
الموضوع حسّاس للغاية، والخلاف في التقليد صحّي، لكنّ الصراع حوله غير صحّي، وإذا كانت الأغلبيّة تؤمن بنظريّة تقليد الأعلم، فمن المستحسن أن نكون مهنيّين ودقيقين في التعامل مع هذا الموضوع، وأن نحيّد الخلاف السياسي والفكريّ عن قضيّة التقليد عبر تحديد دقيق لدور المرجع الديني على مستوى الإفتاء، إذ ربما يقول قائل بأنّ تضخّم دوره حوّله إلى سلطة يمكن التنازع عليها، وكذلك عبر التخفيف من خوفنا من بعضنا، وعبر الاعتراف ببعضنا بوصفنا اتجاهات وقراءات متعدّدة للدين، وعبر الإقرار بقواعد اللعبة واحترام نتائج الأوضاع العلميّة التي قد تميل في المدارس العلمية لصالح فريق يوماً وفريق آخر في يوم ثانٍ، فإذا كان أعلم المراجع بنظرك منتمياً لمدرسة فكريّة لا تؤمن أنت بها، وكنت تؤمن بتقليد الأعلم، فإنّ الحقّ هو أن تقول الحقيقة بأعلميّته للناس، ثم تناقش مدرسته فكريّاً بأيّ طريقة مشروعة تريد، وإلا فإنّ الاستمرار خلف هذه الطريقة من التعامل مع موضوع المرجعيّة لن ينتهي إلا بتحويلها في وقت قريب إلى ألعوبة ما تلبث أن تفقد رونقها وهيبتها، كما بدأت طلائع ذلك بالظهور في العصر الحاضر مع الأسف الشديد.
هذا كلّه بناء على نظرية تقليد الأعلم، أمّا من لا يؤمن بهذه النظريّة ـ كما يبدو لي صحيحاً ـ فإنّ الأمور لا يعود لها مجال للصراع والنقاش، فليُترك الناس وميولهم، وليكن الحوار الفكري بيننا سيّد الموقف، ولنكفّ عن التهويل والتبديع والتفسيق والتشريك والتجهيل. هذا وللكلام تتمّة أو تتمّات إن شاء الله يتعلّق بعضها بمدى دقة بعض شهادات أهل الخبرة اليوم، وكيف يتحرّك بعضهم في إدارة ملفّ الأعلميّة.
احسنت شيخ حيدر _نعم ان القضية كما ذكرتها وان موضوع الاعلمية غالبا مايحرك لاسباب سياسية وفكرية _لكن ياشيخنا هل ان تشخيص الاعلم بالطرق ا لمذكورة في الرسائل العملية امر غير واقعي ولايمكن الوصول الية من خلالها _ خصوصا وان هناك من المراجع من لايعتبر الاعلمية شرطا في التقليد فيكفي ان يكون مجتهدا قادرا على استنباط الحكم الشرعي من مصادره _
أحسنتم سماحة الشيخ الموضوع جداً رائع المجتمع الاسلامي يفتقد هذه المواضيع
احسنتم شيخنا العزيز
أنا مع التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم
ولكني ضد المركزية والاحادية في التقليد وربط مصيري إلى الموت بشخصية واحدة
بل المستحسن أن يستفاد من خبرات الجميع من العلماء ومن نتاجهم العلمي على مستوى جميع المعارف الدينية وحتى على مستوى التخصص الواحد بحيث ان يسمح للمكلف من الاستفادة من الاخرين حتى على مستوى الفقة والأصول كما هو متعارف في الحوزة الكلاسيكية أو التقليدية
ليفتح الباب للاستفاد من الجميع وليعذر بعضنا بعض على مستوى المكلف والفقيه في اخذ الفتوى
وهناك يكون مصداق إختلاف امتي رحمة.
الرجاء الإفادة والتعليق شيخنا واستاذنا حيدر حب الله
محبكم عبدالمنعم الحميدي