السؤال: ما حكم الذي يقطع بشيء ويكون هذا الشيء مخالفاً لحكم الله الواقعي؟ فمثلاً الإرهابي الذي يقطع بكون ما يفعله صحيحاً وصائباً، هل هو معذور أمام الله أم لا؟
الجواب: 1 ـ إذا كان القطع واليقين الذي انطلق منه القاطع بالحكم الشرعي مبرّراً ومنطلقاً من معطيات موضوعيّة ولو خاطئة، فإنّ هذا القطع معذِّر، تماماً كالفقيه الذي يفتي في أحكام الحدود والقصاص بالقتل هنا وهناك، ثم يتبيّن له أنّ قطعه بالحكم الظاهري أو الواقعي لم يكن صحيحاً، فهذا معذورٌ إذا لم يكن فيما بينه وبين الله مقصّراً في مقدّمات البحث أو نازعته نفسه لنتيجة معيّنة دون دليل مقنع وحجّة. ورغم كونه معذوراً فقد تكون فتاويه أدّت إلى قتل أناسٍ كثيرين. وهكذا الحال في مقلِّديه الذين قاموا بتطبيق فتاويه التي رأوها حجّةً عليهم في شرع الله. والأمر عينه يجري في القاضي فإنّه يُصدر الكثير من الأحكام الجزائية والجنائيّة والمدنية وغيرها، وربما لم تصب خمسة في المائة من أحكامه الواقع من حيث لا ينتبه، فظُلم الكثيرُ من الناس واُعدم بسبب أحكامه الخاطئة عددٌ من الأشخاص، فإنّه معذور ما لم يثبت تقصيره. وإثبات تقصيره بالنسبة إلينا يحتاج إلى دليل تتمّ دراسته عند الأجهزة القضائية المختصّة بالمراقبة والمحاسبة، لكن بالنسبة الى الله تعالى فهو أعلم به، وكلّ إنسان على نفسه بصيرة.
2 ـ لهذا قد يبدو لنا استغراب تعذير الإنسان القاطع لو أدّى قطعه إلى قتل إنسان آخر، لكنّه أمرٌ ممكن وواقع، فأنت قد ترى شخصاً في حالٍ لا تشكّ معها في أنّه يريد أن يقتلك، فتبادر لضربه للدفاع عن نفسك فتقتله، ثم يتبيّن أنّه ما كان يريد قتلك أساساً، فأنت هنا معذورٌ أمام الله، رغم أنّك قتلت نفساً بريئة، ورغم أنّك أيتمت أولاده، لكنّ المهم في المعذوريّة هو أن لا يكون لديك تقصيرٌ في المقدّمات، وهذه يعرفها الله، وتعرفها أنت بمراجعة نفسك بصدقٍ وشفافية.
3 ـ نعم، الخطأ الذي يساوي التعذير لا يمنع من ترتيب آثار قانونيّة أحياناً، فمثلاً لو قتلت شخصاً خطأً وأنت تقود السيارة بحيث لم تره في الليل المظلم دون تقصيرٍ منك، ففي هذه الحال رغم العذر إلا أنّك مطالب شرعاً بدفع ديته إلى أهله، وهكذا لو كسرت زجاجاً لشخص آخر وأنت نائم من حيث لا تشعر، فيجب عليك التعويض، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، وهذا أمرٌ آخر يجب الالتفات إليه أيضاً.
4 ـ وهذا الأمر ليس خاصّاً بالشؤون الدينية ولا يبتلي به أهل الأديان فقط، فالقضاء والسلطة السياسية قد تصدر منهم الأخطاء من حيث لا يشعرون فتتسبّب بأضرار على الآخرين، وكذلك البرلمانيّون المشرّعون قد يسنّون قوانين يرونها لمصلحة الشعب، ثم تتسبّب بالكثير من المشاكل لأبناء الشعب نفسه، فيُكتشف الأمر بعد مرور السنين والعقود، وقد يُعذروا وقد لا يعذروا لو كان سبب ذلك هو التقصير في أداء الوظيفة ودراسة الموضوع، بل يشمل الأمر حتى مهندساً يصمّم سدّاً للمياه فيخطأ من حيث لا تقصير عنده، وينهار السدّ فيموت خلقٌ كثير، ففي هذه الحال لا نحكم عليه بالإعدام ولا بالجرم إذا أثبت أنّه لم يقصّر في كلّ المقدمات التي كانت مطلوبة منه، وإنّما حصل الخطأ من أمورٍ لا ترجع إلى تقصيره، والأمر عينه يجري في الطبيب وغيره. فالقضيّة ليست موضوعاً دينياً فقط.
5 ـ أمّا تطبيق هذه المفاهيم على هذا (الإرهابي) أو ذاك، فهذا شيء لا أملك البتّ فيه، إذ لا علم لي بخبايا النفوس وملابسات كلّ شخص على حدة، ولابدّ من دراسة الموضوع في الحالة التطبيقية للحكم فيها، لكن رغم معذوريّة الذي يريد أن يقتلني اشتباهاً فإنّ من حقّي أن أدافع عن نفسي بقتله، فإنّ الأحكام الدنيويّة والقانونية مختلفة عن أحكام التعذير الأخرويّة في بعض الأحيان، فلو أقدم شخصٌ على قتلي بتوهّم أنّني قاتل أو أريد قتله، فيجوز لي في هذه الحال أن أدافع عن نفسي ولو بلغ دفاعي حدّ قتله، فيكون هو معذوراً وأنا كذلك، ومن ثمّ فمن حيث المبدأ قد يكون هناك عذرٌ لكنّ تفاصيل التطبيق لهذا التعذير على هذه الجماعة أو تلك أو على هذا الشخص أو ذاك يحتاج إلى بحث ونظر، بلا فرق في ذلك بين أن يكون الطرفان من مذهبٍ واحد أو من مذهبين أو من دينين اثنين. هذه هي القاعدة التي يطبّقها الفقه الإسلامي وعلم الكلام في هذا المضمار.
6 ـ وقد يكون الطرفان معذورين لكنّ طرفاً ثالثاً هو الذي يتحمّل المسؤولية بتضليل أحد الأطراف أو جميعها من حيث لا يشعرون، فإذا كذب الشاهد في المحكمة في أنه رأى زيداً يقتل عمرواً، ففي هذه الحال يكون القاضي معذوراً في حكمه، تماماً كزيد الذي لم يرتكب أيّ جرم، فيما يتحمّل الجرمَ طرفٌ ثالثٌ، وهو الشاهد الكاذب، وكثيراً ما تكون معذوريّة الطرفين راجعة إلى تقصير طرف ثالث وَضَعَهُمَا في سياق التضليل الذي أفضى بهما أو بأحدهما إلى الخطأ، هذا ما يجب الانتباه إليه أيضاً، فليس كلّما قلنا بالمعذورية فهذا معناه لا يوجد من ارتكب جرماً أبداً.