السؤال: هل يمكن عدّ الإجماعات المنقولة (في الكتب الكلامية) عن الفرقة المحقّة مصدراً من مصادر العقيدة؟ (فادي).
الجواب: الإجماعات إذا استندت ـ أو يُحتمل جدّاً أنّها استندت ـ إلى اجتهادات حدسيّة ومعطيات تحليليّة عقليّة أو إلى اجتهادات في طريقة فهم النصوص أو ترجيح بعضها على بعض أو نحو ذلك فلا يحتجّ بها، ولا دليل على كونها حجّة على أحد، فإنّ اجتهاد شخص عبر ممارسة الاستدلال العقلي أو عبر فهمه الخاصّ للنصوص ـ مفردةً أو مجتمعةً ـ ليس بحجّة على الآخرين من ذوي النظر ولا دليل على حجيّته، مهما بلغ من العلم والاحترام والتقدير، لا في العلوم الشرعيّة ولا في العلوم العقليّة والكلاميّة، ومن يرى ذلك حجّةً فهو المطالب بالدليل. ذلك كلّه إذا لم يوجب قناعة الآخرين بالأدلّة العقليّة أو التحليلات التي قدّمها المجمعون أنفسهم.
نعم، إذا أجمع المتقدّمون منهم على الأخذ بنصّ منقول عن المعصوم، أو على فهم نصّ بطريقة خاصّة، فقد يكون لإجماعهم دور في تقوية التأكّد من صدور النصّ أو فهمه، إذا لم نختلف معهم في مبرّرات أخذهم بهذا النصّ ووثوقهم بصدوره أو في طريقة تفسيرهم له، وكانت لدينا شواهد عكسيّة في هذا المجال، وكذلك الحال لو أجمعوا على أمرٍ لا يحتمل أبداً حصولهم عليه إلا عن طريق النصّ الآتي من المعصوم، فإنّ إجماعهم يكون مفيداً لو لم تقم شواهد عكسيّة عليه.
كما أنّ إجماع مذهب بعينه ليس حجّةً لإثبات قضيّة هي التي تمنح هذا المذهب شرعيّته وتكون محلّ خلاف بين المذاهب؛ لأنّ المفروض أنّ البحث في المسألة التي تقع محلّ خلاف بين المذاهب، كقضيّة إمامة علي بن أبي طالب أو قضيّة خلافة أبي بكر مثلاً، لا يمكن أن يكون إجماع الشيعة أو السنّة حجةً فيها ليثبت معطياته؛ لأنّنا بصدد البحث فيمن معه الحقّ في القضيّة، وما نزال في بداية الطريق، فما هو الموجب ـ منطقيّاً ـ لترجيح إجماع الفريق الأوّل في القضيّة على إجماع الفريق الثاني أو العكس؟! بل لابدّ كي يكون للإجماع معنى هنا أن يستوعب في مثل هذه الحالات الأطراف الإسلاميّة كافّة وهكذا؛ فإجماع السنّة على خلافة أبي بكر لا يعدّ ذا قيمة معرفيّة، تماماً كإجماع الشيعة على إمامة عليّ. وأمّا ما يفعله بعض العلماء من حذف المذاهب الأخرى وكأنّها خارج دائرة الإسلام، بحجّة أنّهم مبتدعة أو زنادقة ـ كما جاء في كلمات بعض علماء السنّة في حقّ مثل الشيعة والمعتزلة والصوفيّة والفلاسفة ـ فهو غير صحيح، ففي النهاية لكلّ فريق اجتهاداته ولا ينحصر الإسلام بجماعة دون أخرى.
هذا كلّه، لو لم نرد أن نذهب إلى ما ذهب إليه محمّد أركون، من أنّه كلّما انعقد الإجماع على أمر كان ذلك مثيراً للريب أكثر، إذ سنكتشف أنّ مصالح معيّنة التأمت لتكوين هذا الإجماع، كما قيل ذلك في انعقاد الإجماع على تصحيح صحيحي البخاري ومسلم، من حيث إنّ ظروف الدولة العباسية وهيمنة الشافعيّة في تلك الفترة على القضاء والمؤسّسة الدينية لعب دوراً كبيراً في الوصول إلى تبلور الإجماع على هذين الصحيحين، لاسيما وأنّ مصنّفَيهما اشتغلا على اختيار النصوص التي لم يكن مضمونها مثار جدل بين التيارات السنيّة الغالبة، وتركا النصوص المثيرة للجدل في تلك الفترة، لهذا بدا مضمونها أشبه بالمتفق عليه بين أهل السنّة وفرقهم، ولهذا تجدني أميل كثيراً إلى دراسة الإجماعات ليس من الزوايا العلميّة فقط بوصف العنصر المعرفي هو المؤثر الوحيد في تكوّن الإجماع، بل علينا أيضاً أن نأخذ بالحسبان العناصر اللاشعوريّة التي قد تكون أحاطت العلماء فوجّهتهم نحو نتائج موحّدة في فترة معيّنة، ما لبثت أن تحوّلت إلى مقدّس، اعتمد عليه اللاحقون نتيجة اتفاق السابقين أو الشهرة بينهم، وهذا أمر قد يحصل في علم الكلام، فقد يقع المتكلّمون في مشكلة، فيذهبون ناحية فرضيّة، فيتفقون على الفرضيّة بوصفها حلاً للمشكلة، ثم تتحوّل الفرضيّة إلى مسلّم يتلقاه اللاحقون ظانّين أنّه تمّ تلقّيه عن المعصوم، فيما هو لم يكن في بداياته سوى محاولة افتراضيّة بشريّة للخروج من مأزق معيّن، وهذا أمرٌ كثيراً ما يقع وسط فضاءات جدليّة بين الفرق لحلّ مشكلة في مواجهة فرقة أخرى، ولهذا قلنا وما نزال بأنّ الدرس التاريخي للنظريّات والعلوم هو مفتاح حلّ الكثير من التصحيح للصور النمطيّة التي نتلقّاها بسهولة وعفويّة عمّن سبقنا، دون دراسات تحليلية جادّة فيها وفي ملابساتها وظروف تكوّنها وتبلورها، بل الدرس التاريخي أثبت وما يزال أنّ الكثير من الأفكار كانت موجودة في القرون الأولى، ولكنّها هُجرت بعد ذلك، حتى أنّه لم يعد يتطرّق إليها اللاحقون استهانةً منهم بها أو بأصحابها، فالنصوص المبعثرة تكشف عن معلومات مثيرة عن أنّ ما نعتبره اليوم أحياناً أمراً منتهياً على المستوى البحثي، كان في تلك الفترة يحظى بأكثر من وجهة نظر، وأنّه كانت فيه وجهات نظر أخرى انتصر لها قلّة من العلماء، ممّن طُمر اسمه غالباً فيما بعد ولم يهتمّ له؛ لأنّه كان مخالفاً للمشهور أو لمن يملك النفوذ داخل الفرق والمذاهب أو على المستوى السلطويّ.
هذا كلّه، لو غضضنا الطرف عن أنّ إثبات الإجماع المذهبي أو الإسلامي على أمرٍ كلامي أو فقهي ليس شيئاً سهلاً أبداً، والتعابير والتوصيفات التي يستخدمها بعض الناس في ادّعاء الإجماعات وتوزيعها يميناً وشمالاً.. لا قيمة لها في حدّ نفسها غالباً، بل إنّ إثبات انعقاد الإجماع في مسألة فقهيّة أو كلاميّة يحتاج للكثير من التتبّع والنظر في الوثائق التاريخيّة وفي نصوص التراث، لا التساهل في هذا الموضوع، فكم من أمر ادُّعي فيه الإجماع واكتشف انعقاد الشهرة على خلاف دعوى الإجماع، ممّا حيّر كثيرين، وقد عمل الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) وغيره على تقديم تبريرات وتأويلات لهذه الظواهر الغريبة الموجودة في التراث الفكري الديني، وذلك عند بحثه حول الإجماع في كتاب فرائد الأصول المعروف بكتاب الرسائل، ومن هنا فحتّى لو قال شخص بحجية الإجماع المحصّل إلا أنّ حجية الإجماع المنقول وسط التساهل العام في دعاوى الإجماعات يبدو أمراً غير موضوعي أبداً، ما لم يحتفّ بشواهد خاصّة في حالات نادرة.
وهناك فرق ينبغي التنبّه له أيضاً ويعرفه أهل الخبرة في هذا المجال، بين تحصيل الإجماع في مسألة معينة وبين نفي الخلاف فيها، فقد لا نجد خلافاً في مسألة معينة كلاميّة أو فقهيّة، لكنّ عدم الخلاف يعدّ ـ في الترتيب ـ أقلّ قيمةً من ثبوت الإجماع، إذ من الممكن أن لا تجد خلافاً؛ لأنّ نصف العلماء لم يتعرّضوا لهذا الموضوع أصلاً، وعدم وجود مخالف لا يعني أنّ الساكتين الذين لم يتعرّضوا لهذا الموضوع كانوا موافقين بالضرورة، بل الأمر يحتاج إلى متابعة لنوعيّة الموضوع من حيث كون سكوتهم كاشفاً عن موافقتهم لينعقد إجماع سكوتي في هذا المجال أو لا.
من هنا، يمكنني القول بأنّ مساحة تأثير الإجماع في القضايا الكلاميّة هي مساحة محدودة جدّاً، وهذا ما توصّل إليه النقّاد من علماء أصول الفقه في القرنين الأخيرين، ودفع إلى تراجع قيمة الإجماع في البحوث الأصوليّة والفقهيّة أيضاً، وإن كان تأثيره النفسي ما يزال حاضراً في الدراسات الفقهيّة، بل حتى في الفتاوى، على شكل احتياطات أو نحو ذلك، وقد كان أستاذنا الجليل السيد محمود الهاشمي حفظه الله يوجّهنا في العمل بدائرة معارف الفقه الإسلامي في السعي لعدم ذكر الإجماع دليلاً مستقلاً في أيّ موضوع إلا نادراً، بل يُذكر في قسم التوصيفات فقط، بمعنى أنّنا نذكر المسألة الفقهيّة، ثم نذكر أنّه ادّعي عليها الإجماع أو انعقد عليها الإجماع، ثم نبدأ بعد ذلك بذكر الأدلّة، وهذه قناعة منه حفظه الله فيما يبدو بأنّ دليل الإجماع ينبغي عدم تظهيره بشكل فاعل، ربما لأنّ زمنه قد انقضى بعد سلسلة الانتقادات الشديدة التي تعرّض لها على يد الأصوليين خلال القرنين الأخيرين.
إنّ الدرس الكلامي والفقهي والأصولي والحديثي والرجالي و.. يحتاج اليوم للتحرّر من تراث الاجتهادات القديمة للعلماء، لا بمعنى تركها، أو عيش شهوة التفلّت منها، بل بمعنى عدم تقليدها وعدم نفوذها في اللاشعور، فلا يمكن أن يكون الفقهاء والمتكلّمون هم الحجّة على أنفسهم ولأنفسهم، في الأمور التي لا يكون للإجماع دور تاريخي اكتشافي فيها، بل ينبغي الاحتجاج بالعقل وكتاب الله والسنّة الشريفة ونحو ذلك، ومن هنا فإنّني ومنذ مدّة لم أعد أذكر الإجماع أصلاً في بحوثي الفقهيّة والأصوليّة وغيرها، إلا في مواضع نادرة تستحقّ التوقّف عندها، وأدعو العلماء والمتكلّمين والباحثين للتحرّر تماماً من الإجماعات وعدم استعراضها في بحوثهم بوصفها أدلّة، إلا في حالات خاصّة لها ظروفها الخاصّة، كما أدعو كلّ القيمين على مناهج التربية والتعليم الديني إلى العمل جيداً لتحرير العقول النخبويّة من هيمنة آراء المتقدّمين ووضع الأدلّة سلطاناً يتبع في قضايا الفكر الديني عامّة، وقد كان غوستاف لوبون (1931م) قد قال في كتابه المشهور (سيكولوجية الجماهير)، بأنّ المحيط يلعب دوراً في تقليص ذكاء الفرد؛ لأنّه يفرض عليه قيوداً في اللاشعور أن يفكّر بطريقة محدّدة ويضحّي بفرضيّات أخرى لا يسمح المحيط باختيارها أبداً، وعلينا أن نتنبّه لمثل هذا الأمر ونحن نتعامل مع التراث الكلامي والفقهي، فكم من مرّة واجهتُ شخصيّاً الكثير من المشتغلين بالمجال الديني ومنهم من يُعدّ من النخبة، وعندما تعطيه رأياً معيناً مع أدلّته فإنّه لا يتحمّله وينقبض وتتسارع دقّات قلبه؛ لأنّ أحداً لا يفكّر بهذه الطريقة، حتى لو كانت هناك أدلّة، لكن عندما كنت أقول لهم مثلاً: إنّ فلاناً من العلماء قال به، كان ذلك كافياً ـ ولو كان العالم شخصاً واحداً عبر التاريخ ـ في التطمين وتهدئة النفوس وإعادة التفكير بالموضوع بوصفه فرضيّة قابلة للبحث، لا لشيء إلا لأنّه عرف أنّ عالماً واحداً قال ذلك، فما معنى هذه الحال إلا هيمنة تراق المتقدّمين والمتأخرين على اللاشعور بل على الشعور نفسه؟! وقبل أيّام واجهت هذا الأمر، فقد كنت أحدّث أحدهم بأنّ جابر بن حيان يوجد رأي بأنّه شخصيّة وهميّة لا واقعيّة لها، فلم يقدر على تحمّل هذا الرأي، لكنّني عندما قلت له بأنّ السيد الفاضل أحمد المددي ـ أحد العلماء البارزين الحالييّن والمتخصّصين في علوم الحديث والرجال والتراث ـ يرى هذا الرأي، تغيّرت المعادلة في اللحظة نفسها، وانقلب الموضوع، لتكون وجهة النظر هذه قابلة للبحث والتأمّل، وقد نشرنا في العدد الحالي (المزدوج: 30 ـ 31) الذي يخرج من المطبعة خلال أيام بعون الله حواراً مع السيد المددي في مجلّة الاجتهاد والتجديد، أشار فيه لرأيه في موضوع جابر بن حيان أيضاً، والمجال لا يسمح بالإطالة أكثر الآن.
نعم، كلّما اقتربنا من مجال الدراسات ذات الطابع العقلي كعلم الكلام والفلسفة بدت الحاجة ماسّة لتحييد الإجماع عن الحضور في قائمة الأدلّة. إنّه بذلك ينفتح أفق الاجتهاد الإسلامي مستفيداً من تراث الأقدمين، ولكنّه غير مقلّد لهم أو خائف منهم أو وجلٍ أو مستوحش من الانفراد عنهم، عندما يسوقه الدليل وتهديه الشواهد والمعطيات، شرط التوازن النفسي في هذا المجال، وأن لا نستبدل عقدة الخوف من المشهور بعقدة التهوّر أو العدوانيّة عليهم.
بارك الله بك سماحة الشيخ
حقيقة الاخذ بالاجماع في العقائد امر غريب
فلم لا يكون رأي الشيعة في الامامة صحيح ورأي السنة في حدود العصمة والولاية التكوينية هو الصحيح
او رأي السنة في الخلافة السياسية صحيح وراي الشيعة في مسألة عدالة الصحابة هو الصحيح
ان هذا النوع من الاجماعات سيسبب برأيي مشاكل عديدة اهمها غلق باب الاجتهاد او حصره في بعض المسائل الفقهية
وخلق جيل لا يحتاج لبحث امور دينه العقائدية لانها وببساطة صحيحة بس الاجماع عليها
شكرا على الإجابة فضيلة الشيخ..
أدامك الله