السؤال: إذا اعتادت جماعة على طريقة تفكير واستنتاج معيّنة، وكانت الطريقة خاطئة، وكان يصعب إقناعهم بفكرة دون تلك الطريق، فهل يُستحسن استعمالها لإقناعهم ولو مؤقتاً كمرحلة انتقالية أم إنهم يتمسّكون بها أكثر إذا استعملناها لهم؟ مثلاً: بعضهم يغرّه القائل كثيراً، فحين يسمع بفكرة للشهيد الصدر أو العلامة الطباطبائي أو الإمام الخميني يتعاطف معها غير ما لو كانت ـ مثلاً ـ لأركون أو سروش، فإذا أردنا إقناعهم بفكرةٍ ما فهل ندعمها برأي هذا العالم المعتبر لديهم؛ لتقترب الفكرة إلى هويّتهم، فيستسيغوها، أم لا نفعل؛ لأنّ ذلك يكرّس الذهنية التبَعيِّة لديهم؟ (مجتبى آل عمير، المملكة العربية السعودية).
الجواب: ليس هناك جواب موحّد على مثل هذه الأسئلة، بل القضيّة تختلف باختلاف المراحل والظروف والملابسات وطبيعة الموضوعات وكميّتها أيضاً، وما أجده في المرحلة الحاضرة في مخاطبة التيار الديني هو أن نضحّي بتغيير طريقة تفكيرهم القائمة على التأثر بما قاله العلماء، لصالح عشرات الموضوعات الأخرى التي يمكننا إقناعهم بها عبر هذه الطريقة، على أن نقوم بشكل تدريجي بالحديث عن هذا الموضوع، ولو عبر كلمات العلماء أنفسهم فيما مارسوه من نقد الإجماع والشهرة والسلف وغير ذلك.
إنّ ترك الاعتماد على طريقة الاستشهاد بمواقف العلماء حيث يمكن، قد يؤدّي في المرحلة الراهنة إلى عدم قدرتنا على إيصال أفكارنا للكثيرين، إذا كنّا نخاطب التيار الديني السائد. فعلينا إجراء موازنة بين حجم المصالح والمفاسد والنجاحات والإخفاقات في هذا الموضوع؛ إذ ليست كلّ المواضيع هي عبارة عن تقديس العلماء، بل هذا ملفّ أساسيّ وكبير، لكنّه ليس الملفّ الوحيد الذي ينبغي أن يشتغل عليه المصلحون، فعندما نركّز على هذا الملفّ بطريقةٍ أو بأخرى، وفي الوقت عينه نستعين به للتأثير في ملفّات أخرى، فلن يكون الأمر سلبيّاً في المرحلة الراهنة، إذ عليك أن تضحّي بشيء لصالح شيء آخر. وكما يقال في الحكمة المعروفة ـ مع فارق المضمون بالتأكيد ـ (لا ينتشر الهدى إلا من حيث ينتشر الضلال)، فأيّ مانع من أن نوصل ما نراه هدى إلى الآخر، عبر طريقٍ هو في نفسه مشكلة، ونحن لسنا مقتنعين بتكريسه، بيد أنّه نافع ومؤثر في إقناع الآخر بعشرات الموضوعات الأخرى الهامّة والضرورية أيضاً، شرط أن لا ننسى مواجهة هذه السبيل التي نستخدمها، بالطرق الممكنة الأخرى، عبر نشر أفكار الآخرين، وتنويع المشهد، وتسليط الضوء على مفاهيم التقديس السلبي بطريقة أو بأخرى.
وهذا الموضوع لا يقف عند حدود العلماء وتقديسهم في الثقافة الدينية السائدة، فنحن نجد من يحارب التقديس لكنّه في الحقيقة لا يحاربه، وإنّما يحارب تقديس هذا العالم أو ذاك، فإذا بلغ الأمر العالِمَ أو الزعيم السياسيَّ الذي يؤمن هو به يرتدّ تقديسيّاً، وقد رأينا ذلك في الكثير من دعاة الوعي والإصلاح ورجال النهوض والثوريّة، ونحن نجد أنّ ثقافة الكثيرين منّا تقوم على انعدام الثقة بأنفسنا، فتجد الكثيرين يقدّسون العالم المنتمي إلى تيار، ويهدرون حقّ منتمٍ لتيارٍ آخر، وقد تجد الكثير من العرب يقدّسون أيّ عالم يأتي من خارج العالم العربي ويعظّمونه، فيما يكون بين ظهرانيهم علماء أهمّ وأعمق وأفضل بعشرات المرّات من هذا الذي صنعوا له هالةً تحيط به حتى كأنّه يمشي فوق سطح الماء! والمشكلة أنّك لو حلفت لهم بالأيمان المغلّظة أنّه شخص عادي جداً وليس له أيّ وزن علمي، ما أمكنك إقناعهم، بل لظنّوا أنّ في نفسك شيئاً!! بل سيظلّون مصرّين على أنّه خبير حتى في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافيّة، مع أنّهم لم يروا منه ولا مقاربة واحدة تدلّ على وعيه المجتمعي والسياسي والثقافي!! بل هو عندهم مثلاً خبير في الفلسفة رغم أنّه فقيه ولم يترك في البحث الفلسفي حتى كرّاساً صغيراً!! وهو خبير في علم الكلام رغم أنّ كلّ كتبه ومحاضراته تعود لبحث الطهارة مثلاً!! وهكذا يقدّس الكثيرون العلماء الآتين من مثل قم والنجف، ويهابونهم، وكأنّ كل ّمن أتى من هذه المدن فهو عالمٌ جليل، فيما يهدرون حقوق علماء بين ظهرانيهم قد يكونون أفضل حالاً بكثير من أولئك القادمين الذين لم ينالوا من قم أو النجف أو الأزهر أو غيرها سوى تمضية مدّة من الزمن في بقعة جغرافيّة وسوى عناء الحرّ أو البرد والغربة.. ومن هنا تجد آخرين لو سمعوا أو طالعوا لشخص آلاف الصفحات ورأوا علمه وفهمه بأمّ أعينهم بما لم يروا مثله عند كثير غيره من قبل، لم يولوا له بالاً إلا أن يشهد له الآخرون ممّن لم يعرفهم الناس أساساً، رغم أنّ الموضوع ليس من شؤون التقليد فقهيّاً.. وهكذا يحكم الجالس في بيته على العامل، والنائم على القاعد والقائم، والصامت على المتكلّم، و.. هذه هي طبائع الناس وهذه هي عاداتهم، ليس في الشأن الديني فحسب، بل في مجالات كثيرة، ولهذا قال المثل: مغنيّة الحيّ لا تطرب، والمثل يُضرب ولا يقاس.
بل الأمر يطال الكثير من العلمانيّين والمتأثرين بالغرب والشرق، ألا ترى أنّك لو ذكرت على لسانك أسماء بعض الباحثين الغربيين انشدّ لك كثيرون واقتنع بقولك آخرون! لا لقيام برهان على ما تقول، بل لأنّك استشهدت بالمفكّر الغربي الفلاني أو بالباحث الشرقي الآخر! وهم ربما لا يعرفون لا هذا الغربي ولا ذاك الشرقي أساساً!! ولهذا تجد بعض المحاضرين أو الكتّاب ينفذ إلى نفوس الناس ببعض هذه الكلمات أكثر ممّا ينفذ إليهم بممارسته التحليل العلمي أو التفكير النقدي أو المقاربة البحثية في أيّ موضوع من الموضوعات، ويصبح ـ ما دام يلهج بما هو غربي ـ مفكّراً، ثم يزعم لك بأنّه متحرّر فكريّاً، وهو ليس بمتحرّرٍ إلا من أفكار مجتمعٍ فيما هو تابعٌ مقلّد لأفكار مجتمع آخر، أي إنّه تحرّر نسبي، كما يحصل مع كثيرين كما ألمحنا آنفاً، أمّا لو قال حِكَماً ودرراً ممّا هو محلّي الصنع فهو متخلّف لا فائدة منه. هذا هو الواقع الذي نعيش، والذي قد يرجع أحياناً إلى انعدام الثقة بالأنا الفردية والجماعيّة، وعلينا تغييره، وفي الوقت عينه استغلاله حيث يمكن. الموضوع يحتاج لتوعية شاملة متعدّدة الجوانب، ولنفس طويل، وصبر عظيم، ورؤية وسياسة وبصيرة فيما نفعل ونقوم، وللكلام صلة وتتمّة، والموضوع ذو شؤون وشجون، وعلينا العمل تدريجيّأً للوصول إلى مرحلة تكون النخب فيها ـ إذ من الصعب تعميم الموضوع لكلّ الناس ـ نخباً تتعامل مع الأفكار لا الأشخاص، ومع ثقافة الفكرة لا مع إعلام الفكرة ومؤثراتها النفسيّة.