السؤال: 1 ـ حول الأعداد والأرقام في العبادات والأعمال المستحبّة والتقيّد به. هل العبادة بالكمّ أم بالكيف؟ ونيّة القائم بها مدعاة إلى الحديث الشريف: إنّما الأعمال بالنيّات.
2 ـ إنّ الكثير من الأفعال العباديّة المستحبّة يُقرن أداؤها بأرقام تعجيزيّة لدى بعضهم، فيترك المستحبّ العبادي لهذا الرقم الكبير. أفيدونا عنها، وهل مصداقيّة القبول عند الله بالكمّ أم بالكيف أم بحسن النية؟ (علي العلي).
3 ـ هل الأعداد المرتفعة في العبادات المستحبّة هي ميزان القبول، وأنّ المُنقص للعدد تكون نافلتُه مرفوضة وغير مقبولة؟
الجواب: لا فرق في العبادات بين الواجبات والمستحبّات، فكما أنّ الواجبات لها كيفيّات خاصّة، كذلك المستحبات لها كيفيّات خاصّة، ما لم يذكر الشارع نفسه أنّه يمكن الإتيان بهذا المستحبّ أو ذاك بلا كيفيّة معيّنة. والكيفيات والأعداد قد يكون لها دور في تأثير المستحبّ تماماً كالصلوات الواجبة، فلماذا كانت أربع ركعات وليس خمس ركعات مثلاً وهكذا. أمّا أنّ بعض المستحبات أرقامها كبيرة، كأن يقول بأنّه يستحبّ قول الجملة الفلانية ألف مرّة أو الصلاة بألف ركعة أو غير ذلك، فهنا ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أمراً مهمّاً في فهم المستحبات عادةً، ويمكنني أن أبيّن ذلك عبر مفهومين:
المفهوم الأوّل: ما يسمّى في أصول الفقه الإسلامي بوحدة المطلوب وتعدّد المطلوب، فبعض المستحبات يمكن أن يحتوي على مستحبين مركّبين، وإن كان ظاهره أنّه مستحبّ واحد، فإذا فُعل أحدهما يكون العبد قد فعل مستحباً من المستحبّين وترك الآخر، لا أنّه لم يفعل شيئاً أساساً. ويقول بعض العلماء بأنّ هذه الظاهرة موجودة بنسبة أكبر في المستحبّات منها في الواجبات والفرائض، فعندما نقول بأنّ ركعة الوتر من صلاة الليل يُذكر فيها كذا وكذا كلمة العفو، ويستغفر فيها لعشرات المؤمنين وغير ذلك، فهذا لا يعني أنّه لا يمكن أن تصلّي صلاة الليل إلا بهذه الطريقة، بل يعني أنّ هذه الطريقة هي الطريقة المثلى، وإلا فلو قمت بقنوت ركعة الوتر كما تقوم بأيّ قنوت آخر، صحّت الركعة، واعتبرتَ مصلّياً لصلاة الليل، ومثل هذا البرامج العبادية المستحبّة، مثل النصوص التي تدلّ على كيفية زيارة مقام من المقامات الدينية، فتذكر فيها عشرات النقاط المتسلسلة، أو كيفية دخول المسجد، فتذكر جملة من المستحبات بما يبدو أنّ المجموع هو عبارة عن مستحبّ واحد، وكثير من العلماء يفهمون هنا التعدّد في المستحب، غاية الأمر أنّ انضمام المستحبات وتركّبها مع بعضها البعض يحقّق الأنموذج الأبرز لدخول المسجد أو غير ذلك، فينبغي أن نلاحظ نوعيّة المستحبات التي تشيرون إليها فقد تكون مجموعة مستحبّات فيما نظنّ نحن أنّها مستحب واحد ثقيل.
وبهذه الطريقة فسّر هؤلاء العلماء الروايات العديدة التي تشرح بعض المستحبّات بطرق مختلفة فيما بينها بشكل جزئي هنا وهناك، فقالوا بأنّ الكلّ مستحبّ، ولا تعارض بينها، رافضين تطبيق قاعدة حمل المطلق على المقيّد في المستحبات إلا في بعض الموارد، فلو قال الحديث: صلّ يوم السبت ركعتين عند العصر لك في ذلك الأجر، ثم قال حديث آخر: صلّ يوم السبت عند العصر ركعتين تقرأ فيهما الحمد وكذا وكذا، ثم قال حديث ثالث: صلّ عند العصر يوم السبت ركعتين تقرأ فيهما كذا وكذا وتسبّح الله في السجود ألف مرّة، فإنّهم قالوا بأنّ هذه الروايات غير متعارضة، بل الكلّ مستحبّ، وهذه كيفيات متعدّدة لفعل مستحبّ واحد، غاية الأمر أنّ بعضها قد يكون أفضل من بعض، وهذا رأي معروف نافح عنه بعض العلماء وانتقده آخرون في بعض الموارد مثل السيد محسن الحكيم في بعض بحوثه الفقهية.
المفهوم الثاني: وهو مفهوم أنقله عن أستاذنا الجليل المرجع الشيخ محمد تقي الفقيه العاملي رضوان الله تعالى عليه، فقد سمعته يوماً يقول فكرةً جميلة في نفسها ومنطقيّة أيضاً، وربما لا نملك دليلاً عليها لكنّها معقولة في نفسها وقد تصلح لفهم منظومة المستحبّات بعد إثبات استحبابها الشرعي بدليل معتبر. كان سماحته يقول بأنّ المستحبات في الشريعة الإسلاميّة حالها حال (سفرة) طعام ممتدّة، فيها من جميع الأنواع من الأطعمة والأشربة على اختلافها، ثم يُدعى إليها الناس، ويطلب منهم أن يأكلوا طعامها، ولكنّ أحداً منهم لا يقدر أن يأكل من كلّ أطعمتها، لأنّها كثيرة ومتنوّعة، فيختار كلّ واحدٍ منهم ما يناسبه من الطعام، وما يكون أكثر راحةً له وأكثر انسجاماً، فمرضى المرض المعيّن لا يأكلون الحلويات مثلاً، فيما مرضى مرضٍ آخر يتركون من هذا الطعام الممتدّ اللحومَ، كلٌّ حسب مزاجه وطاقته وقدرته وتحمّله، وبعضهم يأكل مقداراً بسيطاً، وبعضهم مقداراً كبيراً حسب طاقته وتحمّل معدته.
ويقصد سماحته رحمه الله أنّ المستحبات على هذه الحال أيضاً، فعندما وضعتها الشريعة لم تقصد أنّ كلّ إنسان عليه أن يقوم بكلّ المستحبّات، أو يحسن به أن يفعل ذلك، وإنّما ذكرت عدداً كبيراً من المستحبّات والمكروهات ليقوم الإنسان ـ بحسب وضعه ـ باختيار ما يناسبه منها ويقدر عليه ويكون أكثر تأثيراً فيه من الناحية الروحيّة والمعنويّة، لأنّ الناس مختلفون في الطباع، فشخصٌ عاطلٌ عن العمل قد يناسبه صلاة ألف ركعة في النهار، وآخر مشغول للغاية في تحصيل لقمة عيشه قد يناسبه الصدقة وذكر الله بلسانه، وشخصٌ ثالث له بنيةٌ جسدية قويّة قد يناسبه الصيام وهكذا.
فعندما نواجه مستحبّاً فيه كثرة أرقام ـ كما ذكرتم في سؤالكم ـ فهذا لا يعني أنّه من المطلوب أن يقوم به الإنسان، وإذا كنتُ أنا عاجزاً إذاً فهذا المستحبّ فيه مشكلة!! بل الشريعة قدّمت لك أنواعاً من المستحبّات وبإمكانك اختيار ما يناسبك وفقاً لنظام الأولويّات والظروف عندك، ووفقاً ـ وهذا مهم جدّاً ـ لدرجة تأثير هذا المستحبّ على حياتك وروحك وعيشك، وعليك أنت أن تختار بطريقة صحيحة، فلا تقرأ دعاء الجوشن الكبير وأنت لا تشعر معه بشيء، وتترك دعاءً أصغر بكثير لكنّه يثير فيك كلّ الحالات الروحيّة والمعنويّة. وبهذه الطريقة لا تكون هذه المستحبّات مشكلةً في حدّ نفسها، بل تكون قد وضعت لتناسب من يتمكّن من الإتيان بها، دون أن تُلزم الشريعة الآخرين الذين يرون الإتيان بها فيه ضربٌ من المشقّة عليهم.
وهذا ما يستدعي ضرباً من التسامح في المستحبات، بمعنى أن لا نلزم الناس أو نلحّ عليهم بنوعٍ خاصّ منها، بل نفتح أمامهم الأفق الذي يريدون هم اختياره، ويكون معياره التأثير الإيجابي على نفوسهم وأرواحهم ومسلكيّاتهم، فالمسألة في المستحب مسألةٌ اختياريّة وغير إلزامية، فليُترك الناس ليختاروا المستحبّ الذي يرتاحون معه ويتعايشون معه أكثر، أمّا ما يفعله بعضنا اليوم ـ كما بتنا نرى ـ من أنّه يجعل المستحبّات الخاصّة التي يفضّلها هو بنفسه معياراً لتديّن الناس، فلو فعلوا هذا المستحبّ فهم جيّدون حتى لو تركوا ألف مستحبّ آخر، ولو تركوه فهم مقصّرون حتى لو فعلوا ألف مستحبّ آخر، فهذا غير جيّد. بل إنّ بعض الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يمارسون فعل الدعوة إلى المستحبّات بأشدّ من ممارستهم فعل الدعوة إلى الواجبات، وهذا من اختلال فقه الأولويات عندهم، ما لم يكن في الظروف الزمكانية ما يعطي خصوصيّة معينة.
نعم، بين المستحبات تفاضل تحدّث عنه الفقهاء المسلمون بلغة (المستحب المؤكّد والمستحب غير المؤكّد، أو الكراهة الشديدة والكراهة غير الشديدة)، وهذا التفاضل تحكيه لنا النصوص الدينية نفسها، وليس استحساني أو استحسانك، فصلاة الليل مستحبّ أوكد من مستحبّ آخر، والصلاة في المسجد أو الصلاة جماعة من المستحبّات المؤكّدة، وكذلك الصدقة على المحتاجين، وهذا الأمر يتّبع فيه نوعيّة ولغة وحجم النصوص الحاثّة على هذا المستحبّ أو ذاك، وهنا، من الممكن توجيه الناس نحو المستحبّات المؤكّدة بدرجة أكبر من توجيهها نحو سائر المستحبّات، لكن بطريقة تفسح المجال للناس للاختيار ما دام الأمر غير ملزم لهم، كما قلنا قبل قليل.
هذا كلّه في غير حالة المستحب الذي يكون بنفسه غير منطقي، فإنّ عدم منطقيّته قد يصلح دليلاً على بطلانه، كما لو قال يستحبّ صلاة عشرين ألف ركعة في ليلة واحدة، فهذا غير منطقي ولا ممكن عادةً، فيكون ذلك قرينة الضعف في الرواية الحاكية عن هذا المستحبّ، ومن ثم عدم ثبوت استحباب مثل هذا الفعل.