السؤال: لاحظ أحدهم أنّ قاعدة العلمانيّين هي النفور من الأفكار الدينية ومن رجال الدين.. يقول: لكنّهم يخالفون هذه القاعدة في مورد السيد فضل الله رحمه الله، فتتبدّل قاعدة النفور إلى قاعدة الإعجاب والاحتفاء..!! وربما قيل: إنّ إنسانيّة خطاب السيد رحمه الله هي سرّ تمييزهم بين خطابه وخطاب غيره من رجال الدين.. لكن ـ في المقابل ـ ربما قيل: أن يعتبروه أحد مفكّريهم وملهميهم تعبيرٌ عن السنخيّة بين فكره وفكرهم.. فإذا كنّا نبني على ضلال العلمانيّة، فإنّ هذا ـ بالنتيجة ـ يستلزم القول بضلاله، أو يكشف عن ضلاله.. فما الصحيح والخطأ من القولين؟ معتذراً كلّ الاعتذار على المزاحمة بعد المزاحمة.. أولاكم الله دائم رعايته.. وأسألكم الدعاء (رائد الصدر، المملكة العربية السعودية).
الجواب: ربما يتعاطى كثير من الناس بهذه الطريقة في مقاربة الأمور، ليس مع العلامة فضل الله رحمه الله فقط، بل مع كثيرين أيضاً، فالحساب عندهم في التصويب والتخطئة والهداية والضلال هو بمقدار قرب هذا الفكر أو ذاك، أو هذا الشخص أو ذاك، من التيارات اللادينيّة مثلاً أو نحو ذلك، ولكنّ هذه الطريقة غير صحيحة في المعالجة؛ لأنّها تنطلق من كون التيار العلماني مثلاً لا يوجد عنده حقّ في بعض مقولاته، فإذا اقترب من شخصٍ ما فهذا معناه اقتراب الباطل المحض من ذلك الشخص، وهذا أمرٌ غير صحيح؛ فالعلمانيّون وغيرهم ثمّة في أفكارهم الكثير من المقولات الصحيحة، حتى لو تمّ الخلاف معهم على كثير من مقولات أخرى، ومن ثمّ يجب أن نقارب نوعيّة الأفكار التي أثارت إعجابهم مثلاً في هذا الشخص أو ذاك، وفي هذا الفكر أو ذاك، حتى نكون علميّين ومنهجيّين في تعاملنا مع الأمور، فقد يكون ما أثار إعجابهم بعض الأمور التي هي حقّ، وقد يكون ما أثار إعجابهم أمورٌ ليست بحقّ. فهذه الطريقة ليست أسلوباً علميّاً في تقويم أفكار الناس والحكم عليها؛ لأنّ العلماني ليس باطلاً محضاً في كلّ ما يقول ويرى صغيراً كان أو كبيراً. فهو إنسان يملك عقلاً ويصيب فيه ويخطأ. والكلام نفسه نقوله للعلمانيّين والإصلاحيّين الذين قد يختلفون مع شخص لأنّ التيارات الدينية قريبة منه أو معجبة به، فهذا ليس بدليل، لا وفق موازين العلم ولا المنطق.
بل لو أردنا تطبيق هذه الطريقة لربما ما ناسبت المستشكل نفسه هنا، فلطالما اُعجب اليسار الماركسي والاشتراكي في العالم العربي بالمقاومين الإسلاميّين، وكانوا أقرب إليهم من بعض التيارات الدينية حتى في الداخل المذهبي، ولطالما كان اليسار غير الديني أقرب إلى الإمام الخميني ـ إلى ما هو بُعَيْدَ انتصار الثورة ـ من المؤسّسة الدينيّة نفسها، حتى اتّهم السيّد الخميني بالشيوعيّة وبقبض الأموال من سفارات الاتحاد السوفياتي، بل هناك سؤال جوهريّ أرجو التأمّل فيه: من هو الأقرب إلى العلمانيّة في عصرنا: التيار الإسلامي السياسي (الخميني، مطهري، فضل الله، الصدر..) أم الحوزات المدرسيّة؟ إنّ الحوزات التقليديّة أقرب إلى العلمانيّة منها إلى الإسلاميّين والنهضويّين وبعض دعاة التجديد الديني، وذلك أنّ الكثير من تقليديّي الحوزات ـ وهي اجتهاداتهم ووجهات نظرهم التي نحترمهم عليها ـ لا يرون جواز ممارسة السلطة السياسيّة في عصر الغيبة، وكثيرٌ منهم يمنع عن إجراء العقوبات الجزائيّة والجنائيّة في عصر الغيبة أيضاً، وكثير منهم يحرّم العمل السياسي الهادف لقيامة دولة دينية، وكثير منهم لا يتفاعلون مع الأحزاب الدينية أساساً، وكثيرٌ منهم يحصرون دور الدين اليوم بالشؤون الفرديّة تقريباً، ودورَ المؤسّسة الدينية بالإفتاء وبعض الأمور المحدودة، فمن هو الأقرب إلى العلمانيّة؟ ومن هو الذي يناسب وجودُه التيارَ العلمانيّ؟ ذاك الذي ينادي بتطبيق الشريعة وممارسة الحياة الدينية السياسية والاجتماعيّة أم أولئك الذين يرون حرمة العمل السياسي وممارسة السلطة السياسيّة ويفضّلون انعزال رجال الدين عن السياسة؟! فأيّهما أقرب إلى العلمانيّة؟! مَن الذي كانت تعيش الأنظمة العربية (القومية واليسارية و..) معه مشكلةً بشكل أكبر: مدرسة الصدر والشيرازي والخميني وسيد قطب.. أم التيار الآخر في الوسط الديني؟ ها هو عبد الكريم سروش يرى مؤخراً أنّ الثورة الحسينية سرٌّ من الأسرار غير قابلة للاستنساخ، ويأخذ التيار التقليدي ـ غير الثوري ـ كلامَه اليوم في الوسط الإيراني بمثابة مرجّحٍ لرأيهم في عدم استنساخ الثورة، ويقولون: كلامُنا لم ينشأ من فراغ؛ فها هم الباحثون الآخرون يؤيّدوننا، فكيف صار كلام سروش هنا مؤيّداً والتقاؤكم معه علامةً صحيّة، أمّا التقاء الآخرين معه في مكانٍ آخر فهو دليل فسادهم وضلالهم؟! والغريب أنّنا نبحث خلف الغرب والشرق غير المسلم ونجمع شهاداتهم المادحة للرسول أو الإمام علي أو الإمام الحسين، ونفتخر بها أمام الملأ، بينما لو قال المفكّرون (وأغلبهم غير دينيين) في الغرب والشرق مدحاً لتيارٍ ديني اليوم أو لشخصيّة دينية صار ذلك إدانة!! ألا تنادي الكثير من التيارات التجديديّة النقدية الدينية اليوم ـ والموسومة في بعض الأوساط بالضالّة ـ بالتصوّف والعرفان سبيلاً للخلاص من المشاكل وسبيلاً للتحرّر من الفقه والفقهاء ومن العقائد وعلماء الكلام؟! ألم يقل ذلك العشرات منهم في العالم الإسلامي؟ فهل يعني ذلك أنّ اقتراب التيارات النقديّة ـ ومنها بعض العلمانيّين ـ من العرفان والتصوّف، دليلٌ على بطلان هذين، وأنّ العرفاء والمتصوّفة على باطل؟!
الأمثلة بالعشرات في هذا السياق، والمجال لا يسع لذكرها، وهذا كلّه يؤكّد أنّ هذه الأمور برمّتها ليست معايير في التصويب والتخطئة، ولا في الحكم على الناس والتيارات والأفكار، وإنّما المهم أن نتداول الأفكار نفسها، ونقوم بدراستها لمعرفة صوابها من خطئها وفق منهجٍ علميّ ثابت ومقرّر. وليس إذا قال شخصٌ كلمةَ حقٍّ انتفع بها تيارُ باطلٍ صار الحقّ باطلاً، فالحق ممّن أراده حقّ، والحقّ ممّن أراد به باطلاً هو حقٌّ أيضاً، لكنّ إرادته باطلة، فالتحكيم في عصر الإمام عليّ رفع شعاراً حقّاً، ولا يصبح الحقّ الكامن في هذا الشعار باطلاً لأنّه تمّ توظيفه في سبيل أمرٍ باطل، وهو مواجهة علي بن أبي طالب عليه السلام.
لهذا، كنت وما أزال، أركّز دائماً على مسألة المنهج، وعلى أن نمتلك عقلاً علميّاً يفكّك الأشياء عن بعضها، ولا يخلط الأوراق، وأرى بنظري القاصر أنّ الكثير الكثير من مشاكلنا الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة اليوم سببُها اللامنهجيّة في تفكيرنا، والبُعد عن الطريقة العلميّة المتوازنة في تعاملنا مع الأشياء، وانتقالنا من (أ) إلى (ج) دون المرور بـ (ب)، أعني القفز غير المنطقي من فكرةٍ إلى أخرى، وعدم تفكيكنا الأمور عن بعضها، وخلطنا كلّ شيء بكلّ شيء، خلطاً غالباً ما ينجم عن تدخّل الخيال والوهم والانفعال والعاطفة والتحيّز والتعصّب والخوف والقلق والهواجس في نشاطنا الذهني، ولو مارسنا المنهج التفكيكي هذا، لرأينا أنّ بجانب كلّ حقٍ باطلاً، وبجانب كلّ باطلٍ حقّاً، فما من مدرسة تحمل الحقّ إلا وهي قريبة في نقطةٍ ما من مدرسةٍ تحمل الباطل، وبعيدة في نقطةٍ ما عن مدرسة أخرى، هذا هو منطق العقل والتفكير غير المعصوم، وما العصمة إلا لمن عصمه الله من الزلل والخطأ.
إنّني أدعو نفسي والآخرين دوماً إلى أن نسعى لتجاوز طريقة التفكير الحاكمة في ثقافتنا العربيّة، وهي الطريقة السماعيّة والخطابيّة التي يغلب عليها الخيال والوهم، والتهويل والتسطيح، لنتجّه نحو عقلٍ منطقي علميّ برهاني موضوعي، فإذا تمكّنا ـ وهذه وظيفة المرشدين الاجتماعيّين والنفسيّين، ووظيفة المدارس والجامعات ومناهج التربية والتعليم و.. ـ من إخراج مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة من نطاق ثقافة جماع العقل الخطابي والجدلي والشعري إلى العقل الموضوعي والبرهاني، فسنخرج ثقافتنا بنسبة كبيرة من اللاعلميّة إلى العلميّة.
وأعني بالعقل الخطابي والجدلي والشعري المفهومَ المنطقيّ لهذه الكلمات، أي العقل الذي يبني مقدّماته وأفكاره وأغراضه وطريقة معالجته للأمور على القضايا المتسالَم عليها أو المشهورة أو المظنونة أو المأنوسة أو المتخيّلة أو الموهومة، إنّه عقل يرى قيمة الفكرة بكونها مشهورة بين ناسه وآبائه وقومه وأبناء عصره، ويرى قيمتها في كونها متناسبة مع الخيال والعاطفة، ويرى قيمتها في كونها متناسبة مع ما هو مأنوس ومقبول في مجتمعه، أمّا الفكرة الحقّة التي تعارض مسلّمات المجتمع ومأنوساته ومقبولاته ومشهوراته وعاطفته وخياله فهي باطلة، أو غريبة، أو متحذَّرٌ منها، أو على الأقل لا ينبغي تداولها؛ لأنّها تسبّب المشاكل والقلاقل.
كما أعني بالعقل البرهاني والموضوعي ذاك العقل الذي يقوم على المقدّمات اليقينية باليقين الموضوعي (كمثل مدرسة الاستقرائيّين والتجربيّين) أو اليقين البرهاني (كمثل مدرسة العقليّين)، دون أن يهمّه المحيط أو الخيال أو العاطفة أو المأنوسات، ولا يخاف من الجروح النرجسيّة، ولا من العواطف الجيّاشة؛ لأنّه يريد أن يكون منطقيّاً في تفكيره، ولهذا عندما نقول: لا تسمحوا للخطباء بالسيطرة على العقل الديني، بل اجعلوهم تحت رحمة الفلاسفة والمفكّرين والفقهاء والنقّاد العلمييّن، فهذا ليس عبثاً أو سوءَ قصد، ولا لأنّهم سيئون والعياذ بالله، بل لأنّ أغلب الخطباء ـ بحكم العادة والمنهج الخطابي ـ ينهجون لتحويل عقولنا إلى عقول تقوم على الخيال والوهم والعاطفة والأنس والتقليد، ولا يجرحون نرجسيّتنا، ولا يقلقوننا اجتماعيّاً؛ لأنّهم يتداولون الأمور المقبولة والمشهورة، بحكم وظيفتهم ونوعيّة عملهم، كما قال علماء المنطق ذلك منذ مئات السنين، فليس ما أقوله بالشيء الجديد أبداً، فلا يجوز أن يكون العقل البرهاني محكوماً أو خائفاً من العقل الخطابي أو الجدلي أو الشعري، بل العكس هو الصحيح، لا بمعنى إلغاء الخطابة والشعر والجدل بما تمثله من مظاهر سلوك ثقافي اجتماعي حضاري، بل بمعنى وضعها في مكانها الصحيح، فهي غالباً معينات للأفكار لا منتجات لها، ولهذا يقول العلامة الطباطبائي في بحوثه الفلسفيّة بأنّ خطأ العقل لا يأتي من العقل، وإنّما يأتي من دخول قوّةٍ أخرى على خطّه، فتؤثّر فيه، مثل الوهم والخيال، وهذا ما ينتج بالضبط عين ما أقوله هنا. نسأل الله التوفيق لنا جميعاً، إنّه وليّ قريب.