السؤال: ما رأيكم بالفهم العرفي للنصّ القرآني والابتعاد عن تطبيقات علم الأصول؟ خصوصاً وأنّ الإشكال قد يأتي من ناحية إعجاز القرآن، فالمفروض أنّه نزل عرفيّاً في زمن النبي، بينما نحن اليوم بحاجة كي نفهمه إلى استنطاقه من الناحية الأصولية فقط وفقط، هل هذا صحيح؟ (أحمد، سلطنة عمان).
الجواب: لا يوجد ـ من حيث المبدأ ـ أيّ تناف بين الفهم العرفي وتطبيق قواعد أصول الفقه الإسلامي؛ لأنّ علم الأصول ينظّر بنفسه لحجيّة الفهم العرفي وعدم حجيّة أيّ فهم آخر، كما أنّ الأصوليّين والفقهاء لطالما دافعوا عن الفهم العرفي للنصوص الدينية، ويشهد لذلك أنّك تراهم في مباحث الحجج من علم الأصول قد طرحوا بحثاً مستقلاً لمسألة حجيّة الظهور، وبرهنوا عليها ودافعوا عنها، وتجدهم في أبحاثهم التطبيقية في الأصول والفقه يتناقشون في الفهم العرفي، فيردّ أحدهم على الآخر فهمه بأنّ ما استنتجته مخالف للفهم العرفي، بينما يدافع الآخر عن فهمه بإثبات أنّ العرف يفهم المعنى الذي فهمه هو، وهكذا، وهذا الشيء لم يفعله بهذه الطريقة الفلاسفة ولا العرفاء وكذا كثيرون غيرهم، هذا كلّه من الناحية النظريّة.
إلا أنّ الإشكاليّة التي تُطرح هنا هي أنّ الأصوليّين في إطار ممارستهم الأبحاث اللغويّة، لاسيّما في القرون الهجريّة الأربعة الأخيرة، أفرطوا في استخدام المنهج العقلي في الفهم اللغوي، أي أنّهم بالغوا في فهم تراكيب الألفاظ وبنياتها باستخدام المنهج العقلي القواعدي، وهذا ما أوحى ـ شيئاً فشيئاً ـ بأنّ فهم اللغة تحوّل إلى عملية معقّدة، كما أوحى بأنّ فهم الكتاب والسنّة يحتاج إلى العشرات من القواعد والأدوات المبرهن عليها في محلّها، وأنّ هذه القواعد قد تشتبك أثناء التطبيق، وعلى المفسّر والفقيه أن يحلّ هذه المعضلة ويفكّ هذا الاشتباك، وهذا ما خلع على فهم النص لباساً ذو سمةٍ عقليّة فلسفيّة تعتمد التعامل مع القواعد أكثر من اعتمادها عفويّة اللغة، وجرّ ذلك إلى أن يتعامل الأصولي والفقيه ميدانيّاً بطريقة هندسية معقّدة، تحدّد الزوايا أكثر ممّا تدوّرها.
ويمكن أن نعطي هنا أمثلة توضح الغياب النسبي للفهم العرفي بسبب هذه الآلية في النشاط الأصولي، فالروايات الواردة تفيد أنّ صلاة الوتيرة يؤتى بها بعد صلاة العشاء الآخرة, وهنا قال بعض الفقهاء بأنّ المكلّف لو صلاها قبيل الفجر صحّت منه، والدليل عنده صدق البَعْدِيَّة، بمعنى أنّه يصدق على الوتيرة أنها قد أدّيت بعد صلاة العشاء؛ لأنّ من يصلّيها قبيل الفجر فقد صدق عليه أنّه صلاها بعد العشاء، فالفجر يقع بعد العشاء، مع أنّ عملية الفهم العرفي العفوي البسيط تختلف عن ذلك، فلو قال لك شخص: إنّني سآتيك بعد صلاة العشاء، فإنّ العرف يفهم أنّه سيأتي مثلاً بعد الصلاة بنصف ساعة أو بساعة كحدّ أقصى، أمّا لو جاء قبيل صلاة الفجر، فإنّ العرف يستنكرون عليه، ولو احتجّ بأنّني قلت: بعد صلاة العشاء، وقبيل الفجر يصدق عليه أنّه بعد صلاة العشاء، لربما سخروا منه. هذا هو الفرق.. فالبعديّة في التفسير الأوّل تقترب من الوعي الفلسفي لكون الشيء بعد الشيء الثاني، بينما البعديّة في التفسير الثاني تقترب من الفهم العرفي الذي بُنيت اللغة عليه في نظام التفاهم والتفهيم. ومن هنا كان ينقل عن السيد البروجردي ـ رحمه الله ـ أنّه عندما كان يدرّس بعض مباحث المعاملات، كان يطلب أن يؤتى له بشخصٍ من السوق ليسأله عن ما يفهمه العرف من البيع الفلاني أو من هذه الصيغة لعقد الإجارة أو غير ذلك، وذلك بهدف أن يقترب البروجردي من لغة أهل السوق والذوق الصحيح.
وهناك من يطرح مثالاً آخر يقترب من الموضوع ويتصل بالتحليل الهندسي للأشياء، وهو أنّه إذا وضع شخص في حسابه البنكي مبلغ 1000 دولار، ولم تكن لديه ـ أي المعطي ـ أيّ خصوصية لعين الأوراق المعطاة، كما هي العادة، فإنّ الفهم العرفي لا يعتبر أنّ المال قد تَلِف أو أنّه تحوّل إلى مجهول المالك، أو أنّ المال قد خرج عن ملكيّة الشخص ويحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي؛ لأنّ الذي وضعه في البنك ليس تلك الأعيان (الأوراق)، وإنّما قيمتها الماليّة، إلا أنّ التفكير الفلسفي الحرفي لا يفهم الأمر بهذه الطريقة في كثير من الأحيان.
هذه هي الملاحظة التي بدأت تنتشر في الأوساط النقديّة ضدّ بعض فهوم الأصوليين والفقهاء للنصوص، وليس كلّ الفهوم طبعاً، وظهرت دعوة تتنامى شيئاً فشيئاً للتخلّي عن هذا النظام التفسيري الحادّ في فهم النص، واستبداله بنظام أكثر عفويّةً، يحاول أن يعيش اللغة ويتماسّ معها، ويقول الناقدون هنا بأنّ من الضروري جداً أن ندرس اللغة لا بوصفها قواعد أشبه بجداول الضرب والحساب، وإنّما بوصفها ممارسة، وأن نقرأ كتب الأدب والشعر والقصص العربية القديمة ونتذوّقها، ولا نقتصر على كتب النحو والصرف والبلاغة التي قدّمت اللغة قوالب تقعيديّة أثّرت على كيفية ممارستها من الناحية التفسيريّة؛ لأنّ اللغة روح قبل أن تكون فكراً وقواعد, والمعاهد الدينية تدرس في الغالب قواعد اللغة، ولهذا نجد عشرات الآلاف من الطلاب غير العرب يتقنون قواعد اللغة غاية الإتقان، بيد أنّهم لا يستطيعون التكلّم بها ولا يجيدون فهمها بهذه الطريقة العرفيّة. هذا هو الإشكال التطبيقي لعلم الأصول، دون المنحى النظري الذي رأيناه على الدوام يدعم الفهم العرفي. ومن ألطف الأشياء لمن يقرأ تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي، أنّ هذا العلم ولد على يد أمثال الإمام محمّد بن إدريس الشافعي (204هـ) في كتاب الرسالة وغيره، بسبب انتشار العجمة في فهم كلام العرب، فأراد الشافعي أن يصحّح فهم لغة العرب، ويضبط فوضى الفهم التي تسبّبت عن دخول غير العرب في الإسلام ومشاركتهم في الاجتهاد في قضايا الفهم الديني، فإذا كانت هذه هي غاية هذا العلم في تأسيسه، ولهذا اهتمّ الشافعي كثيراً بمباحث البيان (مباحث الألفاظ وفهم النصّ)، فمن الحريّ أن ننتبه إلى أن لا نقع في عكس المقصود، وأن نعرف أنّ خطوة الشافعي غير كافية؛ لأنّ ما يقلّص من الفهوم المعوجّة للنصوص ليس فقط وضع القواعد، وإنّما أيضاً عيش اللغة، لتصبح وكأنّها اللغة الأم، فتتبلور المعاني وتنتقل من سماع الألفاظ كأنّما يسمعها عربي من العرب الأقحاح، ولهذا قال الشيخ محمّد عبده (1905م) ـ رائد حركة الإصلاح في مناهج التربية والتعليم في المعاهد والجامعات الدينية ـ: «أن يبلغ المرء بالتعلّم مبلغاً كان عليه العربيّ بالسليقة» (الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمّد عبده 3: 156). وهذا كلّه لا يعني أنّ عملية فهم النصوص الدينية فهماً لمجموعها سيصير عمليّة بسيطة يمكن لأيّ أحد أن يقوم بها؛ لأنّ البعد التاريخي عن عصر النص، وتعقيدات اللغة نفسها بعد غيابنا عنها تدريجيّاً، وخصوصيات التشابك الموجود بين النصوص، لاسيما الحديثية منها، تجعل الوصول إلى نتيجة بحاجة إلى جهد، لكنّ هذا شيء والفهم غير العرفي شيء آخر.