السؤال: ورد في الحديث أنّ حواراً جرى بين يهوديّ وبين النبي محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وممّا جاء فيه أنّ اليهودي سأل الرسول: (.. فأخبرني عن الخامسة، لأيّ شيء أمر الله بالاغتسال من الجنابة، ولم يأمر من البول والغائط؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ آدم لما أكل من الشجرة دبّ ذلك في عروقه وشعره وبشره، فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من كلّ عرق وشعرة، فأوجب الله على ذريّته الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة، والبول يخرج من فضلة الشراب الذي يشربه الإنسان، والغائط يخرج من فضلة الطعام الذي يأكله، فعليهم منهما الوضوء. قال اليهوديّ: صدقت يا محمد)، هل هذا الحديث مقبول؟!
الجواب: هذا الحديث هو جزء من حديث طويل في الحوار المفترض بين النبي وبعض اليهود، وقد نقله لنا الشيخ الصدوق (381هـ) في بعض كتبه مثل (الأمالي: 252 ـ 262؛ وعلل الشرائع 1: 126، 251، 282؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 75 ـ 76؛ والخصال: 355، 530؛ ومعاني الأخبار: 51)، وأخذ عنه البقيّة. وهذا الحديث الطويل الوارد عن شخص النبي الأعظم فيه الكثير من الأمور، وأحدها هو السؤال عن هذه المسألة، ولكنّ الذي يبدو لي بنظري المتواضع أنّ هذا الحديث مردود، وذلك:
أولاً: إنّه من حيث السند ضعيف بجهالة أكثر من شخص في السند، مثل أبي الحسن علي بن الحسين البرقي (أو الرقي)، والحسن بن عبد الله وغيرهما من المجاهيل والمهملين. علماً أنّ له مصدراً واحداً هو الشيخ الصدوق لا غير.
ثانياً: إنّ الأسئلة التي سأل عنها اليهودي من اللافت للنظر فيها أنّ بعضها يتحدّث عن أمور هي مثار جدل بين المسلمين في القرن الثاني الهجري، مثل مسألة الوضوء والغسل المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموضوع القياس والعمل به، إذ تعدّ هذه المسألة من المسائل المشهورة في الردّ على القياس في الدين وفهم الشريعة. كما أنّ الكثير من الأسئلة التي اشتملها هذا الحوار يتحدّث عن أمور تفصيلية في الشريعة الإسلاميّة كالوقوف بعرفات بعد العصر يوم عرفة، وموضوع الصوم وأوقات الصلاة والوضوء والغسل وغير ذلك من التفاصيل، وكأنّها برمّتها موجودة في التوراة بشكلها الإسلامي الفقهي، حتى يُعلن ذلك اليهودي أنّها صحيحة ويُسلم للنبي في آخر الحوار.
ثالثاً: إنّ هناك بعض الأسئلة غير مفهومة، ولا أدري لماذا جعلها اليهودي من شروط تصديق النبي محمد، مثل:
أ ـ لماذا سمّيت الكعبة كعبةً، فأجابه النبي بأنّ ذلك لأنها وسط الدنيا، مع أنّ التسمية مرتبطة بثقافة العرب واللغة العربية!
ب ـ أو سؤاله عن أنّه بأيّ شيء بنى هذه الكعبة مربعة؟ حيث أجابه النبي: بالكلمات الأربع!!
ج ـ ومثل سؤاله عن أنّه لأيّ شيء سمّي النبي محمّداً وأحمد وأبا القاسم وبشيراً ونذيراً وداعياً؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: أما محمد فإني محمود في الأرض، وأما أحمد فإني محمود في السماء، وأما أبو القاسم فإنّ الله عز وجل يقسم يوم القيامة قسمة النار، فمن كفر بي من الأوّلين والآخرين ففي النار، ويقسم قسمة الجنة، فمن آمن بي وأقرّ بنبوتي ففي الجنة، وأما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي، وأما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، وأما البشير فإني أبشّر بالجنة من أطاعني.. ولست أدري ما هذه الأسئلة التي جُعلت معيار إسلام هؤلاء النفر من اليهود بعد ذلك، مع أنّ هذه شرحٌ لكلمات عربية عادية مثل الداعي والنذير والبشير.
د ـ ومثل سؤال اليهودي عن أنّه لأيّ شيء وقّت هذه الخمس صلوات في خمس مواقيت على أمتك في ساعات الليل والنهار؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: إنّ الشمس إذا طلعت عند الزوال، لها حلقة تدخل فيها، فإذا دخلت فيها زالت الشمس، فيسبّح كل شيء دون العرش لوجه ربي، وهي الساعة التي يصلّي عليّ فيها ربي، ففرض الله عز وجل عليّ وعلى أمتي فيها الصلاة، وقال: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وهي الساعة التي يؤتى فيها بجهنم يوم القيامة، فما من مؤمن يوفّق تلك الساعة أن يكون ساجداً أو راكعاً أو قائماً إلا حرّم الله عز وجل جسده على النار.. وهذا التفسير لمسألة الزوال يبدو لي غير مفهوم، ففي كلّ لحظة هناك زوال في الكرة الأرضيّة، فأيّ معنى للحديث عن وقت خاص اسمه الزوال تدخل فيه الشمس في حلقة وهو مخصّص لصلاة الله على النبي؟ وفي أيّ أفق يقع هذا الأمر؟ وكأنّ الراوي تصوّر أنّ الأرض مسطّحة وأنّ الزوال يقع مرّة واحدة في النهار على الكرة الأرضيّة كلها، مع أنّه في كلّ لحظة هناك زوال للشمس في بلد من البلدان تبعاً لكروية الأرض ومدارها حول نفسها وحول الشمس، ولا علاقة للموضوع بوجود حلقة تدخلها الشمس.
ومثل هذا الحديث حديث آخر معتبر السند عند كثيرين، وهو عن حريز بن عبد الله، أنّه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فسأله رجل فقال له: جعلت فداك، إنّ الشمس تنقض ثم تركد ساعة من قبل أن تزول؟ فقال: «إنها تؤامر: أتزول أم لا تزول» (بحار الأنوار 55: 171؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 225)، فهو يفيد أنّ الشمس يحصل نوع بطء في حركتها عند الزوال بعد أن كانت تسير بقفزة سريعة عند الصباح، وأنّ سبب ذلك هو أنها تشاور هل تزول أم لا، فكأنها في تردّد من الأمر، ثم تُعطى الأمر بالزوال فتزول!المر ثم تعطى الأمر بالزوال،فإنّ فلو صحّ ظاهر هذا الحديث لكانت الشمس في كلّ لحظة تؤامر وتشاور هل تزول أم لا تزول؛ لأنّها في كلّ لحظة تقع على شرف الزوال في بلدٍ من البلدان، فلا معنى لتخصيص المشاورة بالزوال، وفي اللحظة التي تكون عندنا في وقت الصباح فنراها سريعة، هي في بلد آخر في الزوال فتكون بطيئة. على أنّ بطأ حركتها في وسط النهار معلومٌ علميّاً، فهي (والأرض) على حركتها العادية غايته يظهر لنا بطأها بسبب بعدها بحسب نظرنا عن الأفق وسائر الأمور، وإلا ظهرت لوازم ومفاسد كثيرة، فكيف تكون بطيئة في بلد لأنها فيه عند الزوال، وسريعة في بلدٍ في الوقت نفسه لأنها فيه عند الصباح؟! هذا كلّه يشيء بوضع هذا الحديث مثلاً أو يردّ علمه إلى أهله.
هـ ـ اعتباره أنّ البول من فضلة الشراب الذي يشربه الإنسان، وأمّا الغائط فهو من فضلة الطعام، مع أنّ البول يأتي من السوائل التي تكون من الطعام أيضاً وليس من الشراب، ولعله بنى على الغالب أو المتعارف آنذاك.
و ـ اعتباره أن الله خلق آدم من طين، ومن فضلته وبقيّته خلقت حواء، وأوّل من أطاع النساءَ آدمُ فأنزله الله من الجنّة، وقد بيّن فضل الرجال على النساء في الدنيا، ألا ترى إلى النساء كيف يحضن ولا يمكنهنّ العبادة من القذارة، والرجال لا يصيبهم شيء من الطمث.. إنّ هذا المضمون مخالف للقرآن والسياق القرآني، فالقرآن يقول بأنّ الشيطان أزلّهما عنها فأخرجهما مما كان فيه (البقرة: 36)، فالشيطان فعل ذلك بآدم وحواء معاً، لا أنّ حواء هي التي فعلت ذلك بآدم، والقرآن يحدّثنا أيضاً بأنّ الشيطان تحدّث مع آدم مباشرةً ووسوس له مباشرةً، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طه: 120 ـ 121)، فالسياق القرآني يفيد بحسب الظاهر أنّ الشيطان فعل ذلك بالمباشرة، فيكون مضمون هذا الحديث غريباً عن طريقة عرض القرآن للقصّة، فالقرآن حمّل الشيطان مسؤولية ما حدث ولم يحمّل حواء، بل يفيد أنّ حواء لا علاقة لها الموضوع، بل هي قد وُسوِسَ لها كما وسوس لآدم تماماً، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف: 20 ـ 22).
ولا أريد أن أدخل في بعض الملاحظات النقديّة الأخرى التي قد يجاب عنها في الثقافة الدينية بأنّها أمور محتملة ونحن لا نعرف الأسرار، لكن مثلاً: ما علاقة أنّ ما أكله آدم من الشجرة وسرى في عروقه باغتسال الإنسان من الجنابة؟ حسناً لماذا إذن لا نتوضّأ عندما نخرج البلغم من فمنا مع أنّ له علاقة ببعض العروق؟ وهكذا عندما يقول بأنّ سبب الصيام ثلاثين يوماً على أمّة محمد هو أنّ ما أكله آدم بقي في بطنه ثلاثين يوماً، فلهذا كان صيام ثلاثين يوماً في شهر رمضان.. لا أدري ما علاقة موضوع بقاء الأكل في بطن آدم ثلاثين يوماً بتشريع الصيام لأمّة النبيّ بعد آلاف السنين من وقوع تلك الحادثة، مشيراً إلى أنّ هذا الصيام لثلاثين يوماً أمرٌ اختصّت به شريعة الرسول الأكرم، وإلا فسائر الشرائع كان صيامها مختلفاً في العدد عن صيام أمّة الإسلام. هذا النوع من الملاحظات لا أريد أن أتبنّاه ـ وهوكثير في هذا الحديث الذي يحوي مثل هذه الأمور التي قد تبدو لذهننا غير واضحة أو مفهومة ـ ولهذا اخترت بعض الملاحظات النقديّة الأكثر وضوحاً. ولعلّ مجمل ما ذكرناه يشي بأنّ الحديث موضوع على النبيّ الأعظم، ويشكّكنا جدّاً بصدوره.
رابعاً: إنّ الحديث يقول بأنّ اليهوديّ الذي كان على رأس هؤلاء النفر وكان أعلمهم وكانت بيده نسخة كأنّها من التوراة.. قد أسلم بعد الحوار وحَسُنَ إسلامُه، ولعلّه يجوز لي أن أسال هنا: لماذا لم يُذكر اسم هذا اليهودي الذي صار مسلماً؟ ومن هو هذا الصحابي الذي كان يهوديّاً من علماء بني إسرائيل وحصلت معه هذه الحادثة الحواريّة الطويلة التي لم تنقلها كتب السيرة ولا الحديث عند المسلمين، بل تفرّد بنقلها لنا الشيخ الصدوق بسندٍ واحد فيه أكثر من راوٍ مهمل الذكر أو مجهول الحال؟ أليس من المناسب أن يكون معروفاً أو أن يخبرنا الراوي عنه بعد أن صار واحداً من المسلمين، لاسيما وأنّ أحداث القصّة تشير إلى وقوع هذا الحوار في أواخر العهد المدني؟ فلماذا تمّ إهمال ذكر الاسم؟! ألا يوجب ذلك الريب واحتمال وضع واختلاق هذا الحديث؟ أليس إسلام واحد من علماء اليهود أمر غير عادي يستحقّ الذكر، ونحن نعرف أنّ القليل نسبيّاً من علماء اليهود ممّن أسلم على يد النبي الأكرم في العصر النبوي؟ فكيف تمّ نسيان هذه القصّة وتمّ تجاهل ذكر الاسم؟!
والخلاصة: إنّ هذا الحديث ضعيفٌ من جهاتٍ سنديّة ومتنيّة تُفقدنا الوثوق بصدوره ووقوع حواره المفترض، حتى لو لم نتمكّن من الجزم بعدم صدوره، والعلم عند الله.