السؤال: جناب الشيخ حيدر حب الله المكرّم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إنّ المتتبّع لكتبكم ومحاضراتكم يلاحظ فيكم الاطلاع الواسع على حقول معرفيّة متعدّدة من جوانب الفكر الإسلامي، وإنّني شخصيّاً استفدت من بعض كتبكم ودروسكم في حقول مختلفة، وبودّي أن تفيدوني في هذا الأمر: كيف يمكن لطالب العلم الحوزوي أن يحافظ على نموٍّ متزن في شتى الحقول العلميّة؟ فأنا بصراحة يهمّني ـ إن وفّقني الله ـ أن أصير متخصّصاً وذا فضيلة علميّة في الفقه والأصول وعلم الكلام، ولكنّني في الوقت نفسه يهمّني أن أكون على اطّلاع جيّد على كلّ من الفلسفة الإسلاميّة والحديثة وأبحاث علم الكلام الجديد، وأبحاث نظرية المعرفة، والتاريخ وغيرها من الحقول العلميّة، فبم تنصحون؟ ولكم جزيل الشكر (طالب علم).
الجواب: النموّ المتوازن في العلوم الإسلاميّة، رغم التخصّص في بعضها، يمكن أن يكون من خلال نظام دراسي متوازن، ولكن حين يفتقد الإنسان هذا النظام الدراسي، فبالإمكان القيام ببعض الخطوات الشخصيّة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1 ـ القيام بنظام مطالعات متوازن، فلو خصّصتم ـ على سبيل المثال ـ ساعةً واحدة كلّ يوم لمطالعة البحوث الفكريّة الجديدة والعلوم الدينية الأخرى، وثابرتم على ذلك بحيث استمرّيتم عليه سنوات عدّة، وقمتم بجعل نظام المطالعة اليومي هذا مطالعةً مفيدة ضمن مراحل وليست عابرة، بحيث خصّصتم لها الكتب المفيدة في المجالات المختلفة، فسترون أنّ وعيكم الذهني بهذه الموضوعات سوف ينمو بشكل تلقائي. إنّنا نعيش أزمة مطالعة كبيرة، وأزمة قراءة في عالمنا الإسلامي، ولو قرأنا بحقّ وبشكل يومي بدل تضييع الوقت على قضايا لا فائدة منها تستهلك الإنسان وطاقاته، لرأينا أنّ لدينا الوقت الكثير للاستفادة، وليس كما نتصوّر أنّه لا وقت لدينا. ومن تصوّر أنّه يريد أن يرتفع حقيقةً في سماء العلم بلا تعب ولا سهر ولا إرهاق ولا غير ذلك فهو واهمٌ لا يعيش واقعيّة الأمور أبداً.
2 ـ اختيار مجموعة من الطلاب التي تعيش الهمّ نفسه، بحيث يمكن لهذه المجموعة أيضاً أن تلتقي ولو ليوم واحد في الأسبوع ـ وبشكل منظّم وبنحو المثابرة فإنّ الأساس هو التواصل والمثابرة في الأمور ـ وتتدارس الموضوعات المختلفة أو تتناقش في كتاب معين، فيخصّصون كتاباً مثيراً للجدل لمطالعته من قبل الجميع، ثم المناقشة فيه لأسبوعٍ أو أكثر، بهدف ترسيخ الموضوعات التي يطرحها، ويقومون بانتقاء كتب مختلفة تنتمي لموضوعات متنوّعة.
4 ـ المشاركة في الندوات أو الملتقيات أو المؤتمرات ومتابعة كلّ جديد في النشريات والمجلات التي تعالج هذه الموضوعات، والتعرّف على الشخصيات المتابعة في هذا المجال، فلو تمّت هذه المشاركة ولو خمس مرات في العام، وتمّت قراءة بعض المجالات الجادّة، فسوف تضع الإنسان في سياق هذا النوع من البحوث العلميّة. وهنا أنصح بتنظيم زيارات ـ ولو نصف شهريّة ـ للباحثين والكتّاب والعلماء المختصّين بالمجالات العلميّة المختلفة، بهدف توجيه مجموعة من الأسئلة لهم والتعرّف على تجاربهم وأفكارهم.
5 ـ محاولة الشعور بتحمّل المسؤولية إزاء القضايا الفكريّة الجديدة والعلوم الدينية التي تقع خارج الفقه والأصول، ولو من خلال محاولة النقاش حولها في بعض المحافل، وتعريض النفس للسؤال عنها، بحيث يدفعك هذا الأمر للمراجعة والمتابعة والاهتمام.
6 ـ أن يعيش طالب العلوم الحوزويّة اعتبار الموضوعات الفكريّة المتنوّعة ـ غير الفقه والأصول ـ جزءاً من الأولويّات، ويعرف أنّها حاجات وليست أموراً ترفيّة، وأنّها صعبة وفيها الكثير من التحدّيات، لا كما يصوّر لنا بعض الحوزويين بأنّها أمور عابرة لا تحتاج لبحث ونظر ولا صعوبات أو مشاكل فيها. إنّ التحرّر من هذه المفاهيم المغلوطة هو مفتاح الحلّ، حيث سيساعدنا كثيراً في خلق محفّزات نفسيّة كبيرة في هذا الصدد، وتنظيم أولوياتنا بطريقة صحيحة.
إنّ أهم وظائف طالب العلوم الحوزويّة اليوم، لاسيما الطلاب الذين يعيشون في المدن العلميّة الكبرى مثل قم والنجف، هو الانفتاح على الحياة خارج أسوار الحوزات العلميّة، فإنّ الحوزات قد تخلق في الذهن أولويّات، لكنّ الواقع خارجها يفرض أولويّات أخرى تختلف أو فيها بعض عناصر الاشتراك، وعلى طالب العلم أن تكون له عينين: عينٌ على الداخل الحوزوي ليهتمّ بدروسه ويتمكّن من العلوم الحوزويّة التراثية، وعينٌ على الخارج ليهتمّ بقضايا العصر، وينمّي طاقاته ونشاطاته في هذا المجال، ولو قسّم وقته ونظّم أولويّاته وحدّد أهدافه المتنوّعة، ووضع خطّةً زمنيّة محدّدة للأهداف المرحليّة التي يريدها، وقصد الله في كلّ ما يفعله ويُقدم عليه، ولم يخف أو يلهث خلف موقعه هنا أو هناك، فإنّ الله سيكون معه بإذنه، وفّقنا الله وإيّاكم للقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنّه وليٌّ قريب مجيب.