السؤال: لقد أصبت بحالة اكتئاب شديد، والآن أخضع للعلاج، وهناك تحسّن بسيط بفضل الله سبحانه، وهذا المرض أفقدني القدرة على التفكير في أمور ديني ودنياي وآخرتي. تصوّر ـ شيخنا ـ أسمع القرآن فيكثر ألمي؛ لأنّي لا أعيش المعاني السامية له، وأحاول أن أختار منهجاً عقديّاً محكماً مبنيّاً على البرهان العقلي، لكنّ فكري مشوش، وإن كنت أعتقد بأحقّية مدرسة أهل البيت، ولكن لا أركّز ولا أشعر، وأخاف أن ينتهي عمري، وأكون من الخاسرين، فهل من بعض التوجيهات من سماحتكم؟
الجواب: عندي فكرتان أودّ أن أشير إليهما هنا:
1 ـ المطلوب منك فوراً أن تخضع للعلاج أو تستمرّ به، وتذهب إلى الأطباء الجسديّين والنفسيّين الموثوقين للمعالجة، وتحدّثهم عن كلّ ما يجول بخاطرك، لتعرف في أيّ مرحلة هو اكتئابك، ومن أيّ نوع هو، بل لربما ـ إذا كنت ذَكَراً ـ تكون في مرحلة ما يسمّيه بعضهم بـ (سنّ اليأس) عند الرجال، وهي مرحلة عابرة عليك تخطّيها بهدوء بمشورة الأطباء الفاحصين والموثوقين. وقد أحسنت إذ ذهبت للطبيب ولم تتبع طرق بعض الشرقيين في التهاون بمثل هذه الأمور، والمهم الاستمرار بالعلاج حتى النهاية دون انقطاع ولا تراجع. وإلى جانب ذلك محاولة ذكر الله دوماً واستشعار الطمأنينة منه وفتح علاقة حبّ مع الله وليس علاقة خوف فقط. كن هنا (متصوّفاً) عاشقاً هائماً تحبّ الله وتعشقه، ولا تتعامل مع الله سبحانه تعامل العبيد الخائفين مع السادة، فليست هذه هي العلاقة الوحيدة مع الله سبحانه كما تصوّرها لنا بعض أشكال الخطاب الديني الشعبي السائد، بل تُحدّثنا تجارب علماء الأخلاق والمدارس الروحية في الديانات كافّة أنّ للعلاقة مع الله حالات عديدة متنوّعة عاطفيّاً وروحيّاً. حاول أن تستأنس بالله وتفتح معه علاقة كعلاقة الصداقة، وانزع فكرة الأب التي تسقطها عليه دوماً، فأنت الآن لست في وضع يسمح بتفعيل مثل هذه الفكرة نفسيّاً.
2 ـ لماذا الخوف؟ وما هي الجريمة التي ارتكبتها حتى تشعر بالخوف؟ لنفرض أنّك مقتنع بمذهب معيّن في الفكر أو العقيدة، فلا حاجة لإرهاق النفس بالأدلّة عندما تكون في وضع مرضي غير صحّي لا يسمح لك بالتوفّر على طاقة التفكير السويّ؛ فهذا مثل تكليف الشخص بالعمل ببناء العمارات وهو مصاب بأمراض جسديّة مضنية أو لا تسمح له بالحركة أساساً كالشلل.. في مثل هذه الحال قد تعتبر أنت مريضاً حقيقيّاً وفقاً لتشخيصات الأطباء، فكما لا يحاسب الله المريض على تركه القيام في الصلاة؛ لأنّه غير قادر، ويقبل منه الصلاة عن جلوس، كذلك هو لا يحاسبه على عدم بحثه الاستدلالي عندما يكون في وضع نفسي وروحي مَرَضيٍّ ومتدهور.. إنّ بعض أنواع الاكتئاب هو مرض حقيقي قاتل كسائر الأمراض وليس أمراً عارضاً، وإدراك الأمراض النفسيّة القاهرة ضرورة كبيرة في فهم تكليف الناس بالأمور العقديّة والفكريّة، كما أنّ إدراك الأمراض الجسديّة ضرورة قاهرة في فهم تكليف الناس بالأعمال العباديّة والبدنيّة التي توجبها عليهم الشريعة.. هذا مفهوم مهم جداً قليلاً ما تجد من يشير إليه، ونحن غالباً ما نتعامل في الموضوع الفكري مع حالة الضعف المتمثلة بالجنون وكبر السنّ الواصل إلى حدّ الخرف والهذيان، ولكن قد يواجه الإنسان في الحياة أمراضاً لا تقلّ عن هذه تسلبه قدرة الحركة والفعل وتضعف من طاقته الحقيقيّة إذا لم يعالجها، وفهم مرضيّة هذه الأمراض أمر ضروري لفهم النتائج الثوابية والعقابية في المجال العقدي والفقهي معاً. بل إنّ تفكيرك بهذه الطريقة وحمل هذا الهمّ يمكن أن يزيد في مرضك، وعليك تجاوز الأزمة، ثم بعد ذلك تجديد النشاط العقلي.. وذلك كلّه تحت مظلّة إرشادات الأطباء الموثوقين المختصيّن وأساتذة الأخلاق الروحانيّين قدر المستطاع.