السؤال: نصاب أحياناً بالحيرة فيما يتعلّق بالنظام الأفضل، ففي السابق كان الكثيرون يمتدحون النظام الديمقراطي على مستوى الحريات وحقوق الإنسان والتقدّم العلمي والسياسي والاقتصادي، أما الآن وبعد الانهيارت الكبرى في الغرب أصبح بعضهم لا يفرّق بين الأنظمة الاستبدادية غير الدمويّة وهذه الأنظمة إلا على المستوى النفسي للأفراد الذين يعيشون في النظام الديمقراطي، حيث يقولون بأنّ الفساد وإهدار الأموال والغشّ و.. موجودة في النظامين، بل وحتى على مستوى الحريات يقولون بأنّ الأنظمة الغربية ديكتاتوريّة وليست حقيقيّة، وأنّ هناك عشرات الأساليب التي يتلاعب بها على الديمقراطيّة. في المقابل يطرح سؤال جادّ حول النظام الإسلامي، وهو: أين الأنموذج الذي تتكلّمون عنه؟ وما هو الأنموذج الأصلح بين النماذج المطروحة؟ وسؤالي هو هل تلاحظون شيخنا العزيز أنّ هناك مشاكل في النظام السياسي الغربي والإسلامي أم لا؟ (أبو ياسر).
الجواب: لا يمكن الحديث ببساطة عن النظام الأصلح، وأفضّل أن نتحدّث بصيغة النظام الأقلّ ضرراً فيما يبدو لنا، كما ومن الصعب الحديث باستيعاب عن نقاط الضعف في الطروحات الفكرية لقضايا السلطة، لكنّني أودّ أن أشير إلى ما يلي وأكتفي به:
أولاً: أعتقد أنّ الغرب نظر بشكل جيّد لقضية السلطة، لكنّه مازال يواجه مشاكل، أبرزها:
المشكلة الأولى: أخلاقية الفعل السلطوي، فلم يشتغل على البعد التربوي في ممارسة السلطة، وإنّما استعاض عنه بنظام توازن القوى الذي يفرض نفسه على السلطة، بحيث يرغمها على الاعتدال وعدم الظلم؛ إذ يقولون مثلاً: كلّما كان الشعب أقوى ـ من خلال نفوذ ما ينتج عن مشاركاته الانتخابية مثل المجلس النيابي، أو مؤسّسات المجتمع المدني ـ كانت الدولة عادلة، من هنا منحوا الشعب سلطات، مثل سلطة البرلمان وسلطة الإعلام وسلطة هيئات المجتمع المدني. وابتعاد السلطة عن المفهوم الأخلاقي الذي تأتي به نظريّة المصلحة في العقل الغربي سيؤدّي ـ على المدى البعيد ـ لتحايل الإنسان على القانون، وقدرته على التفلّت من التوازنات، أو السعي لذلك على الأقل؛ لأنّ دوافعه الذاتية مصلحيّة وغير أخلاقيّة بالمعنى الديني.
المشكلة الثانية: ازدواجية النظريّة والتطبيق، حيث شاهدناها عند الغرب في علاقته بما هو خارج الحدود الوطنية، في علاقته بأفريقيا، وفي علاقته بالشرق ـ لاسيما الأوسط ـ حيث وضعت تجربته الطويلة مع الخارج العالمَ أمام مأزق خطير في ممارسة السلطة على العالم، حتى لو نجح الغربي في إدارة ممارسة السلطة داخل وطنه.
ثانياً: أما على الصعيد الإسلامي، فقضيّة السلطة تمّ التنظير لها بشكل جيّد، لاسيما خلال القرن الأخير، لكنّها واجهت مشاكل أيضاً، وأكتفي بالإشارة إلى مشكلتين:
المشكلة الأولى: وهي على العكس من المشكلة الغربيّة، حيث اقتصرت النظريّة الإسلامية في الغالب على عدالة الحاكم، وركّزت على شروط الإمام، وأشعرت المسلم بأنّ الإمام إذا كان عادلاً في شخصه وتقيّاً وورعاً كانت الدولة عادلة، فاستعيض عن عدالة الدولة بعدالة الإمام؛ نظراً لوجود منطق فردي في التعامل الفقهي الإسلامي غالباً، وكان ينبغي الجمع بين النظرية الغربية والنظرية الإسلامية، أي بين عدالة الفرد المنبعثة من النزعة الأخلاقية التي يمكن للدين أكثر من غيره أن يوفّرها في أعماق الروح الإنسانية، وبين عدالة الدولة التي تنشأ ـ إضافةً إلى عدالة القوانين ـ من توازن السلطة، الذي يساهم في فرض العدالة بشكل تلقائي ومجتمعي.
المشكلة الثانية: فكرة الطاعة التي هيمنت على الثقافة السلطوية في الإسلام، في مقابل فكرة الحقّ التي سيطرت على الثقافة الغربيّة. وأعتقد أنّ الجمع بين الفكرتين يمكنه أن يؤدّي إلى بعض الحلحلة في خلق ثقافة تدفع الفرد العادي للإحساس بحقّه وأنّه يَحْسُن له المطالبة بحقوقه في الإدارة السياسيّة، وأنّ ذلك ليس عيباً أو جريمة، بل هو استدعاء طبيعي لإنسانيّته في بُعدها الاجتماعي، وخلق ثقافة أخرى تدفعه لإطاعة السلطة والالتزام بالقانون، بوصف ذلك مصلحةً عامة ولو كان على حساب مصالحه الشخصية الذاتية. وكذلك الحال في خلق ثقافة أنّ السلطة وظيفة وليست منصباً، فهي تكليف وليست تشريفاً، بما يعطي الحاكم وضعاً مختلفاً.