السؤال: يوجد عندنا في البلد المسجد الجامع، ونحن بحمد الله نقيم شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان، وللمسجد إمامان، إمامٌ مكلّف بصلاة الفجر والمغرب، وإمام مكلّف بصلاة الظهر، والمشرف على الاعتكاف هو الإمام المكلّف بصلاة الظهر، وعندما ننتهي من صلاة المغرب جماعة نجد أنّ المصلّين يضعون العطر، علماً ـ كما تعلمون ـ أنّ العطر يبطل الاعتكاف، فوضعنا ملصقات تحذيرية على جدران المسجد، فلم يستجب المصلّون لها، فكلّمنا إمام المسجد في المغرب والفجر أن يكلّمهم وينبّههم بأن لا يستخدموا العطر في أيام الاعتكاف، فكلّمهم، ولكن في اليوم الثاني ازداد مرتادو المسجد ممّن يستخدمون العطور، ولم يكلّمهم إمام الفجر مرّةً أخرى، فعانينا من هذا التصرّف، علماً أنّنا نقيم الاعتكاف منذ تسع سنوات، ولا زالت رائحة العطر تفسد أجواء الاعتكاف والمعتكفين، مما حدا بنا أن نصلّي جماعة في الدور الثاني، وذلك لنيل ثواب الجماعة، وفي الوقت نفسه عدم التأذّي برائحة العطور، فما حكم من يصلّي في الدور الثاني جماعة؟ أفتونا مأجورين وبسرعة.
الجواب: الفقهاء في مسألة شمّ الطيب (وهي العطور وكلّ مادة لها رائحة طيّبة تتخذ للشمّ) والرياحين (وهو كلّ نبات طيّب الرائحة) مختلفون: فبعضهم يرى أنّ الشمّ الذي لا يجوز للمعتكف هو خصوص الشمّ الذي يكون عن تلذّذ، فلو شمّ الإنسان العطر دون تلذّذ فلا يضرّه ذلك، وكذلك لو شمّ الرياحين، وبعضٌ آخر من الفقهاء منع عن شمّ العطور والرياحين مطلقاً سواء عن تلذّذ أم غيره، واستثنوا من ذلك فاقد حاسّة الشمّ؛ وذلك لأنّه لا يصدق عليه أنه يشمّ الرياحين والطيب أصلاً، وفريقٌ ثالث من الفقهاء فصّل في الموضوع، فذهب إلى أنّ شمّ العطور ممنوع مطلقاً، أمّا شمّ الرياحين فهو ممنوع إذا كان عن تلذّذ. ويفترض اتّباع الفقيه الذي ترجعون إليه في المسألة.
أمّا وجهة نظري الشخصيّة، فهي عدم ثبوت هذا الحكم كلّه من رأس، لاسيما وأنّ دليله خبرٌ آحاديّ لا يعتمد عليه، وعلى تقدير ثبوته وتبنّيه، فالرياحين يحرم شمّها في خصوص حال التلذّذ والاستئناس بها، أمّا الطيب والعطور فالمقدار المتيقّن من الحرمة فيها هو قصد شمّها لا مطلق مجيء الرائحة إلى أنفه، فلو قصد الشمّ ـ ومنه حال التلذّذ به ـ حرم عليه. وفي مفروض سؤالكم لا يحرم أصلاً تنشّق هذه الرائحة الآتية قهراً إلى الأنف ما لم يصاحب هذا الشمّ تقصّدٌ لذلك أو تلذّذ؛ إذ لا يبعد انصراف ذلك من خبر أبي عبيدة الذي هو العمدة في المقام، بل حتى لو قلنا بالحرمة مطلقاً فإنّ الذي أفهمه بنظري القاصر من الرواية هو الحرمة التكليفية لهذه الأشياء دون بطلان الاعتكاف، فلو ارتكبها الإنسان لم يبطل اعتكافه، فإنّ الاعتكاف حقيقة متقوّمة بهذا المكوث العبادي في المسجد، بل بعض العلماء لا يرى قصد القربة والعبادة من شؤون حقيقة الاعتكاف أيضاً.
وبصرف النظر عن ذلك كلّه، فإنّ لكم الصلاة مع الإمام جماعة حتى لو كان موقفكم أعلى من موقفه، فإنّ الإمام لا يجوز أن يكون موقفه أعلى من موقف المأمومين كما هو مبيّن في كتب الفقه، أما العكس فيجوز مع صدق الاجتماع عرفاً، مثل المساجد التي لها طابقان وتصلّي النساء فيها في الطابق العلوي، فمع صدق الاتصال والاجتماع لا بأس بهذه الجماعة شرعاً، كما هو مبيّن أيضاً في الكتب الفقهيّة.
كما أنّه يفترض بالمصلّين أن يتعاونوا مع المعتكفين في هذا المجال لو كان تقليدهم لا يناسبه شمّ الطيب مطلقاً، وأن يتعاملوا في المسجد على أنّه كيان للتعاون والتنسيق بين المتعبّدين فيه، لاسيما وأنّ فترات الاعتكاف محدودة في السنة عادةً، ومن الجميل بالمؤمنين أن يراعي بعضهم ظروف البعض الآخر لاسيمال الظروف الشرعيّة.