السؤال: الكثير من حالات الاكتئاب تفشّت في مجتمعنا، خاصّة لدى الأخوات. والأطبّاء يصفون أدوية الأعصاب الموجودة في الصيدليات، لكن بدون جدوى تقريباً. ومن خلال عملي أواكب أكثر من حالة… المعاناة بشكل عام تتمثل بضغوطات الحياة، لامبالاة الزوج، عدم اهتمامه بزوجته وأولاده من الناحية النفسيّة، تغيّبه عن المنزل معظم النهار، متاعب سنّ المراهقة للأولاد، عدم الاتفاق في الآراء أمام الأولاد.. سؤالي شيخنا الكريم: بماذا تنصح أيّ أخت تتناول دواءً مضادّاً للكآبة والإحباط وتعب الأعصاب، خاصّة أنّ أزواجهنّ يصنّفونهنّ مريضات أعصاب، ويجدون المبرّر لعلاقات أخرى تزيد الأمور تعقيداً. لكم الأجر والشكر (س).
أولاً: على المستوى الذاتي، فإنّني أعتقد أختي الكريمة ـ ومن منطلق ديني ـ بأنّ الانفتاح على الله تعالى يعطي للإنسان الكثير من الطمأنينة، إنّ المفاهيم الدينية بالغة الأهميّة في هذا المجال، فمفهوم ابتلاء المؤمن، ومفهوم الصبر وحسناته، ومفهوم أنّ الجنّة لا تنال إلا بتحمّل المشاقّ، ومفهوم التأسّي بأهل المصائب من الأنبياء والأولياء والأوصياء، ومفهوم التوكّل على الله، ومفهوم الرضا بقضاء الله وبما قسم والقناعة بما قدّر، ومفهوم أنّ الدنيا قنطرة وجسر فقط، ومفهوم البكاء ومناجاة الله ودعائه وذكره.. وغيرها من المفاهيم الدينية الثابتة في الكتاب والسنّة يمكنها أن تفتح حياة الإنسان لو طبّقها على عالمٍ آخر. وعندما أقول: عالم آخر، فهذه الكلمة ليست مبالغة أو تلاعباً لفظيّاً، إنّها حقيقة، إنّ العلاقة مع الله عالمٌ آخر، ومحبّة الله علاقة تذوب أمامها العلاقات الأخرى، فأوّل شيء أراه ـ من منطلق اهتماماتي الدينية ـ هو التأسيس لعلاقة أخرى مع الله في بعدها الإيماني والروحي، تنفّس كلّ الضغوط والاحتقانات، وتصنع من المصائب والآلام موادّ وحججاً وذرائع للكلام مع الله سبحانه والانفتاح عليه وتلمّس كرمه. إنّني أؤمن بقوّة بأنّ العرفاء والمتصوّفة اكتشفوا سرّ الدين، وعرفوا أنّ روح الدين هو هذه العلاقة الروحية الرائعة بهذا المقدّس المتعالي، وإذا كنّا نختلف معهم في بعض الأمور وبعض الجوانب المعرفيّة فإنّ البعد الروحي في التجربة المعنوية والعرفانية يظلّ أرقى ما في وجود الإنسان المؤمن، فلننفتح على الله، ولا يبقى ديننا فقهيّاً فقط، ولا كلاميّاً فقط، ولا تاريخيّاً فقط، ولا جداليّاً فقط، بل ولا دنيويّاً فقط! ولنذهب في رحلة سعيدة في ربوع هذه الذات المقدّسة المتعالية، وأعتقد أنّ نتائج باهرة سوف تظهر. وسنفهم بشكل أوضح أموراً لطالما سخرنا بها، سنعرف معنى قولهم: تساوي السرّاء والضراء، وسندرك بروحنا ـ لا بفكرنا فقط ـ معنى قوله تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (الحديد: 23). ومع الأسف فقد حصلت انتكاسات في بنيات التفكير في حياتنا، ضيّعت فرصاً كبيرةً على الإنسان، وفَقَدَ الإنسان ـ بالغرق في عالم الدنيا والتقانة والماديات ـ مساحات كبيرة من وجوده، بات يتعاطى معها بسخرية واستهزاء وغرور لم يفضيا به إلا إلى الفردية والوحشة والغربة والتي هي ميزات هذا العصر كما يقولون.
ثانياً: لست مختصّاً بعلم النفس أو بالعلاج النفسي، ويحتاج الأمر لمراجعة ذوي الاختصاص حتى لا نقول ما لا علم لنا به، لكنّني أعتقد أنّنا بحاجة لعلاجات نفسيّة لا تقوم فقط على الأدوية، بقدر ما تقوم على إحداث تبدّلات في المفاهيم والتصوّرات، لنرى الأشياء من حولنا بطريقة مختلفة. إنّ الكثير من مشاكلنا لا تكمن في الواقع المحيط بنا فقط، بل في المفاهيم التي تحكم رؤيتنا وردّة فعلنا إزاء هذا الواقع، فهذه المفاهيم كنت دائماً أشبّهها بأنّها مثل أقراص الدواء، قد يدخل مفهوم إلى أعماقنا فيغيّر كلّ آلامنا، وقد يدخل آخر فيلوّث كلّ وجودنا. أقترح الذهاب نحو عيادات نفسية تهتمّ بهذا الجانب، أي جانب تغيير المفاهيم ورؤيتنا للحياة. فكثيراً ما نكون مثاليين نقارن دوماً بين المثال وواقع حياتنا الزوجيّة، فيما المطلوب أن نكون أيضاً واقعيين، وهناك قد نرى أنّ هذا الزوج أو تلك الزوجة ليسا بهذه المثابة من الشرّ، بل فيهما من نقاط الإيجابيّة عناصر كثيرة. وهناك مفهوم ديني ذكرته بعض الروايات وحِكَم الأخلاقيين والعرفاء يقول: لا تنظر في الأمور الدنيوية إلى من هو فوقك، بل انظر إلى من هو دونك حتى تقنع، فلا تطلب الدنيا، وأمّا في الأمور الروحية والمعنويّة والعلميّة فانظر إلى من هو فوقك، كي تستمرّ في الارتقاء، وهذا مفهوم لا يعني التكاسل عن بناء الدنيا، بقدر ما يعني عدم الطمع فيها والمثاليّة في تحقيق أحلامها. وقد جاء في الحديث المعتبر عند كثيرين، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لحمران بن أعين: (يا حمران، انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك، واعلم أنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين، واعلم أنّه لا ورع أنفع من تجنّب محارم الله، والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزئ، ولا جهل أضرّ من العجب) (الشيخ الصدوق، علل الشرائع 2: 559).
ثالثاً: إذا تعرّضت المرأة لظلمٍ حقيقي من الرجل، وليس لوهم الظلم، فعليها أن تكون قويّة، وأن تقتنع بأنّ القوّة حقّ، وليست القوّة في المرأة عيباً كما يريد المجتمع أن يوهمنا، لأنّ المطالبة بالحقوق ورفض الظلم مبدأ إنساني وديني معاً، لا فرق فيه بين ظلمٍ وظلم، والرجال الظالمون يجب مواجهتهم لكفّ أذاهم، تماماً كالنسوة الظالمات والمقصّرات يجب التعامل معهم بما يفرض عليهم وعليهنّ إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. ومن هنا يمكن الاستعانة بكلّ عناصر القوّة المحيطة بالمرأة؛ للضغط على الرجل أو إقناعه بأن يتعاطى مع الأمور من زاوية مختلفة، ذلك كلّه بطريقة عقلانية هادئة ومتوازنة، لا تبتعد ـ حيث يمكن ـ عن مشاركة الآخرين في عقولهم بالمشاورة.