السؤال:ذكرت في جواب سابق عن الدعاء ليلة القدر: (أنّه لا يوجد في القرآن الكريم ما يشير إلى حصول تقديرات أو قضاء إلهي جديد للناس في ليلة القدر يتعلّق بالسنة القادمة، بمعنى لا وجود لفكرة تقول بأنّه في ليلة القدر تحصل قرارات جديدة، كلّ ما في الأمر أنّ هذه الليلة يبيّن فيها ما تمّ تقريره إلهيّاً منذ الأزل بشكل غير واضح، فالله وصف هذه الليلة بأنّها يفرق فيها كلّ أمرٍ حكيم..) السؤال: ما فائدة ما ذكرته وأنتم لن تأخذوا بالقرآن لوحده بل تأخذون به وبما صحّ عن النبيّ وآله؟ شكراً لكم.
الجواب: هناك فوائد كثيرة لممارسة البحث القرآني المستقلّ عن سائر الأدلّة النقليّة، بل المنطقي هو ممارسة ذلك، وسأوضح بعض هذه الفوائد سريعاً:
أولاً: من المداخل المنهجيّة السليمة في البحث العلمي هو التفكيك؛ لأنّ التفكيك هو حاجة ضروريّة لسلامة العملية البحثية في بعض المراحل، فإذا تعدّدت لديك المصادر المعرفيّة، فمن المنطقي في المرحلة الأولى أن تذهب ناحية كلّ مصدر معرفي لرصد ما يقدّمه لنا من معطيات، ثم نقوم بعد ذلك بمقارنة هذه المعطيات للوصول إلى نتيجة نهائيّة، فإذا أخذنا القرآن والسنّة بوصفهما مصدرين معرفيّين نقليين فمن الطبيعي أن نعالج كلّ واحدٍ منهما على حدة في المرحلة الأولى لكي نجري عملية المقارنة النهائية في المرحلة الثانية. ولن أبتعد كثيراً، فلنأخذ القرآن نفسه، فنحن عندما ندرس آيةً كريمة فمن المنطقي في البداية أن نرصد الآية ضمن تركيبتها الداخليّة، لنرى ما الذي تعطيه الآية ضمن سياقها الخاص المحيط بها، ثم ننتقل بعد ذلك للآيات التي تكون خارج هذه الآية وتلتقي معها في المضمون، فنجري مقارنات وقد تتحوّل الآية الأولى إلى شاهد مساعد لفهم نهائي للآية الثانية. وهكذا الحال في الحديث فنحن في البداية ننظر في الحديث الذي بين أيدينا فنرى ما الذي يعطيه، ثم نقوم بعد ذلك بمقارنته بسائر الأحاديث التي تتصل به في الموضوع، وفي هذه المرحلة الثانية يتمّ الخروج بنتائج نهائيّة، فالفقهاء مثلاً وكذلك المحدّثون يدرسون كلّ حديث على حدة، ثم يدرسونه مع ما يعارضه ويختلف معه من أحاديث لفضّ الاشتباك القائم بين الأحاديث، ولا يمكنك أن تدرس الأحاديث المتعارضة مثلاً بطريقة دفعيّة؛ فإنّ هذا سوف يؤثر سلباً على منهج الفهم، وبإمكانكم مراجعة جهود الفقهاء ـ لاسيما من تأخّر منهم ـ للتأكّد من انتهاجهم هذا النهج في دراساتهم العلميّة الجادّة، لاسيما وأنّهم نظّروا لبعض خيوط هذا الموضوع عندما بحثوا في أصول الفقه الإسلامي عن الفرق بين القرينة المنفصلة والقرينة المتصلة بالكلام.
ثانياً: إنّ قيمة الفصل هو أنّ النتيجة سوف تتحدّد تبعاً لمصدرها المعرفي، فلو قلنا بأنّ القرآن أعطى كذا وكذا، بينما السنّة أعطت كذا وكذا، فسوف نميّز ما هو يقيني عمّا هو غير يقيني من نتائجنا الدينية لو كانت السنّة غير متواترة وقطعيّة، وهذا أمر مهم في رصد نتائجنا البحثية للتمييز بين الدرجات المعرفيّة لهذه النتائج. كما أنّه مؤثر في الحوار الذي قد يجري مع بعض الاتجاهات التي تؤمن بمرجعيّة مصدر معرفي معيّن دون مصدر معرفي آخر، فمن لا يؤمن بحجية السنّة مثلاً ـ كالقرآنيين عادةً ـ من المنطقي أن تميّز له النتيجة الدينية المأخوذة من القرآن الكريم عن تلك المأخوذة من السنّة، إذ لا تستطيع إلزامه بما وصلت إليه عن طريق السنّة الشريفة، بينما يمكنك مدّ جسور حوار منتج معه عبر القرآن الكريم؛ لكونه مرجعيّة معرفيّة مشتركة بينكما. وفي العصر الحاضر حيث الصراعات على أشدّها بين التيارات الدينية، وكذلك بينها وبين التيارات العلمانية، نجد أنّ وصولنا إلى نتائج قرآنية قد يكون أقوى من السنّة في إقناع الكثير من التيارات في العصر الحاضر؛ حيث تراجعت موقعيّة السنّة الشريفة عند بعضها.
ثالثاً:هناك خصوصيّة إضافيّة تفرضها الرتبيّة المعرفيّة بين القرآن والسنّة تستدعي دراسة القرآن منفصلاً عن السنّة في المرحلة الأولى، ثم مقارنته مع ما جاء في الحديث، وذلك أنّ السنّة على قسمين: واقعيّة ومحكيّة:
أ ـ أمّا السنّة الواقعيّة، فهي واقع ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فلو كنتُ جالساً بجانب الرسول وقال لي بأنّ معنى هذه الآية ـ كما أخبره الله وألهمه ـ هو كذا وكذا، ففي هذه الحال سوف آخذ بهذا المعنى فوراً، ولن أنتظر كي أقوم بدراسة الآية ثم مقارنتها بهذا النصّ؛ لأنّ المفروض أنّه يخبر عمّا أوحي إليه.
ب ـ وأمّا السنّة المحكيّة، فهي الأحاديث التي بين أيدينا اليوم، فهي تحكي عمّا قاله النبيّ والصحابة وأهل البيت حسب اختلاف المذاهب في توسعة السنّة ومفهومها، وهذه السنّة المحكية قد تطابق في حكايتها ما قاله النبيّ فعلاً وقد لا تطابق، فقد يكون الناقل صادقاً ودقيقاً، وقد لا يكون كذلك. وتعاملنا عادةً هو مع السنّة المنقولة المحكيّة، فنحن لا نعيش عصر النصّ كما هو واضح. وحيث إنّ تعاملنا مع السنّة المحكيّة فهذا يعني أنّه لابدّ في البداية من التأكّد من أنّ هذه السنّة صحيحة أم لا، ولكي تكون هذه السنّة صحيحةً لابدّ لها من شروط، وأحد شروطها أن لا تعارض القرآن الكريم، فلو عارضت القرآن الكريم لم تصر حجّةً، وهذا يعني أنّني لكي أستند إلى نصّ من الحديث في الفقه أو التفسير أو التاريخ أو العقائد أو غير ذلك.. لابدّ لي من أن أتأكّد من صحّة هذا النص الحديثي وفق النظريّة الأصوليّة والحديثية التي أختارها في تصحيح النصوص واعتمادها، وهنا لابد لي من عرض الحديث على القرآن كي أضمن أنّه حديث صحيح، والسؤال: كيف أتمكّن من عرض الحديث على القرآن إذا لم أكن في المرحلة السابقة قد بحثتُ الموضوع القرآني وتوصّلت إلى أنّ القرآن يقول في نفسه كذا وكذا؟! وهذا يفيد أنّه من المنطقي في البداية أن ندرس أيّ موضوع دراسةً قرآنية، ثم نذهب ناحية السنّة المنقولة، لكي نتأكّد من حجيّتها بواسطة احتوائها على شروط الحجيّة والتي منها موافقتها للكتاب وعدم معارضتها له، فلا يمكن الاستناد إلى الحديث قبل عرضه على القرآن، ولا يمكن عرضه على القرآن قبل فهم القرآن، لكي تتمّ عملية العرض، وبهذا يصبح من المنطقي أن تكون مناهجنا البحثيّة منطلقةً من البحث القرآني في الموضوع الذي نريد دراسته، ثم البحث في ضوء السنّة ومعطيات العلوم الإسلامية وما قدّمه علماء المسلمين، لكي نعرض الثاني على الأوّل، أي على القرآن، فإذا لم يناقضه ويخالفه أخذنا به واكتملت الصورة النهائية للموضوع، وإذا خالفه طرحنا الحديث وكانت النتيجة النهائية هي المعطى القرآني مثلاً. ومن هنا دعونا أكثر من مرّة لكي يكون منهج البحث الفقهي يشرع في الملفات الكبرى من البحث القرآني، ثم يتلوه البحث الحديثي الفقهي، كما فعلنا في كتابنا المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فقد خصّصنا الفصل الأوّل كاملاً في الفقه القرآني لهذه الفريضة، وهذا ما فعلناه أيضاً في دروسنا حول (فقه الأطعمة والأشربة في الإسلام) والذي سيطبع خلال العام القادم بعون الله، حيث خصّصتُ ستين محاضرةً للبحث القرآني في فقه الأطعمة والاشربة، ثم شرعنا في البحث الفقهي والحديثي بعد ذلك؛ لكي نعالج الأحاديث ـ وكذلك جهود الفقهاء ـ في ضوء المعطيات القرآنية الكريمة.
وهنا لابد أن نوضح، أنّه إذا لم يكن الحديث مخالفاً للقرآن وكان حائزاً على شروط الحجيّة الأخرى، ففي هذه الحال يمكن الأخذ بالمعطيات الإضافية التي يقدّمها لنا، فمثلاً لو كان النصّ القرآني يقول بأنّ ليلة القدر يبيّن فيها كلّ أمر حكيم، وجاءت السنّة وأضافت أمراً غير مناقض للقرآن من وجهة نظرك، بل مضيف له، كأن تقول بأنّ عملية التبيين هذه تتمّ بواسطة النبيّ أو الإمام، فهنا تكون قيمة الحديث أنّه يؤخذ به حيث لا يعارض النصوص القرآنية في موضوع ليلة القدر مثلاً، فليس معنى موافقة الحديث للقرآن أنّه يحكي تطابقاً عن نفس ما يحكي عنه القرآن، بل معناه أنّه لا يعارضه وإنّما يقع في سياق مؤشراته العامة، وهذا الموضوع فيه كلام كثير جدّاً وقد تعرّضت لبعضه في مناسبات متعدّدة، ويمكن مراجعة كتابي المتواضع (حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم) لاسيّما الفصل المخصّص لنظرية تقدّم الكتاب على السنّة ومعاني وأنواع هذا التقدّم، والتي أوصلتُها إلى خمسة معانٍ.
أكتفي بهذا المقدار من الفوائد، وأحبّ أن أختم بإشارة أخرى، وهي أنّ بعض الناس ينزعج من الأخذ بالسنّة المعتبرة، ويريدأن يكون كلّ شيء قرآنياً، وقد سبق أن بحثت نظريّة القرآنيّين بالتفصيل في كتابي المشار إليه قبل قليل، وكانت لي وقفات ومناقشات وتعليقات مطوّلة معهم.
وفي المقابل، ينزعج بعض الناس إذا بُحث القرآن بحثاً قرآنياً، فترى لو أنّ شخصاً ركّز أكثر على القرآن في محاضراته مثلاً أو يفسّر القرآن بعيداً عن الحديث.. فإنّهم ينزعجون، ولكنّهم لا ينتبهون إلى أنّهم قد يستمعون إلى آلاف الخطب والكلمات والمحاضرات عبر السنين، والتي يغرقهم فيها الخطباء والمتكلّمون والمحاضرون والكُتّاب بمئات الأحاديث دون مرور يُذكر على كتاب الله تعالى، ولا يشعرون بأنّ القرآن قد بُخس حقّه، بينما يُستَفزّون لو بحث الإنسانُ مسألةً من زاوية قرآنية فقط، دون أن يشير لا سلباً ولا إيجاباً لموضوع السنّة في هذه المسألة المبحوثة.. هذا أمرٌ قد يرجع إلى نوعٍ من هجران القرآن الكريم وعدم إعطائه مكانته المعرفيّة والسلوكيّة والروحيّة، فهو عند كثيرين مخصّص لشهر رمضان فقط، ففيه يُهتمّ به، أمّا خارج شهر رمضان فتجد انحساراً نسبيّاً كبيراً للقرآن الكريم، بينما لا تجد هذا الانحسار لحضور السنّة في الثقافة الدينية العامّة في أيّ شهر من أشهر السنة، فلنذهب في نواحي بلاد المسلمين لنجد الكثير من المذاهب قد تراجع حضور القرآن فكريّاً وثقافيّاً من حياتها نسبيّاً (وأركّز على نسبيّاً حتى لا يُفهم كلامي خطأ) لصالح حضور السنّة، وصارت السنّة هي التي تشكّل فئاتنا وتياراتنا، وباتت السنّة ـ كما قال بعضهم قديماً ـ حاكمةً على الكتاب لا العكس، وصار الكتاب يُفهم من السنّة ولا تُفهم السنّة منه ولا تحتاج إليه، بل أخذ بعضنا ينظّر لهذا أيضاً، وهو تنظير محترم يحفظ لصاحبه ولو اختلفنا معه، وقد بتنا نرتاح مع خطيب نادراً ما يعتمد القرآن في طرح أفكاره ومفاهيمه، بل تعجّ كلماته بالحديث، فيما نقلق جدّاً لو كان مزاج خطيبٍ آخر يعتمد النصوص القرآنية، ونادراً ما يأتي بالحديث دون أن يُنكر حجيّة السنّة! ألا تستحق ّهذه الحال وقفة تأمّل؟! ألا تستحقّ احتياطاً أولى من الكثير من الاحتياطات التي نعيشها في التفاصيل الجزئيّة؟! أم هو القلق الداخلي الذي يوحي لبعض الناس في لا وعيهم بأنّ تكريس القرآن مرجعاً أوّل قد يطيح بالكثير من الأفكار التي بُنيت في الوعي العام. نحن بحاجة لتوازنٍ لا يلغي القرآنَ ولا السنّة، لا إلغاءً نهائيّاً ولا إلغاءً مغلّفاً بطريقة ملتفّة على الكتاب أو على السنّة، والله من وراء القصد.