السؤال: تكثر دعوات إظهار البراءة من رموز المخالفين للتشيّع، بحجّة أنّ الولاء والبراء من واجبات المؤمن (فروع الدين)، وذلك في ظلّ المناخ الطائفي الذي يؤجّج من كلّ الأطراف، وإن كان أحد الأطراف أكثر حدّةً وتطرّفاً في هذا التأجيج. ما مدى صحّة أنّ الولاء والبراء جزء من أساسيّات الدين؟ وهل لهذا المعنى وجود في تاريخ التشيّع؟ ومن أسّس له؟ ومنذ متى؟ (محمّد عباس إبراهيم، البحرين).
الجواب: توجد هنا مجموعة من الأمور ينبغي عدم خلطها ببعضها، وقد خلطها كثيرون وأخطأوا في تقديري في فهم هذا الموضوع، ومع الأسف لم يحظ هذا الموضوع بدراسات معمّقة في الفقه الإسلامي إلا نادراً، وإنّما تمّ تناوله في التفسير أو الأخلاق، والبحث فيه يطول، لكن باختصار يمكن أن نقول بأنّ تمييز ذلك بعدّة نقاط، هي:
أولاً: معنى البراءة، وهي تعني في اللغة الانقطاع وخلوص الشيء من الشيء ومفارقته والتباعد عنه من الأوّل أو بعد الاتصاف به. ومنه البراءة من المرض، أي المعافاة والسلامة وابتعاد المرض عنه وتخلّصه منه. ومنه البراءة من العيب والنقص، بمعنى السلامة منهما. وكذلك عندما يقولون: البراءة من الدَّين والضمان، فهو يعني أنّ الذمّة والعهدة خالية منهما. ومن هذا المعنى الاستبراء من البول والمني والحمل وغير ذلك مما تعرّض له الفقهاء، فإنّه بمعنى الخلوّ منها والخلاص والمفارقة. ومن هنا يأتي معنى طلاق المبارأة، أي يفارق كلّ طرف الآخر، ولهذا اشترطوا فيه المفارقة من الطرفين وترك كلّ واحد منهما الآخر وكراهته له، ويقال: تبرّأ الرجل من الرجل، أي تباعد منه وانقطعت الصلة بينهما، ولم يعترف له بحقّ عليه (انظر: المفردات: 121، وتهذيب اللغة 15: 269، 271؛ ومعجم مقاييس اللغة 1: 236، 246؛ والعين 8: 289؛ والنهاية في غريب الحديث 1: 111؛ والمحيط في اللغة 10: 274 ـ 275؛ والصحاح 1: 36؛ ومجمع البحرين 1: 131 و..).
ثانياً: لم يتعرّض الفقهاء في بحوثهم غالباً للبراءة من المشركين والكفّار والظالمين، لكنّ هذا الأمر واضح من بعضهم في بعض الكلمات، وهناك بحث في الفقه الإسلامي حول أنّه لو أراد الإنسان أن يصبح مسلماً فيجب عليه إبداء الشهادتين، فإذا صدرت منه الشهادتان فهو مسلم، لكن هل يجب عليه أن يتبرّى من سائر الديانات حتى نعتبره مسلماً؟ المعروف بينهم عدم لزوم ذلك (انظر: شرائع الإسلام 4: 185 ـ 186؛ وقواعد الأحكام 3: 298، 575 و..)، فلو تولّى الله ورسوله، ولم يتبرأ من سائر الديانات فهو مسلم حتى لو عُدّ عاصياً.
ثالثاً: انطلاقاً من النقطة السابقة، وبصرف النظر عن اعتباره مسلماً أم لا، هل يجب أن يتبرأ الإنسان من الكفر والكفّار ومن الظلم وظالمي آل محمّد أم لا؟ وهنا توجد أربعة مفاهيم يجب علينا أن نميّز بينها:
1 ـ التولّي للمسلمين أو لموالي محمّد وآل محمّد، وهذا واجب، وهو أن يكون المسلم محباً لهم وينصرهم وينتمي إليهم ويدخل في جماعتهم.
2 ـ تولّي غير المسلم أو الناصب العداء لأهل البيت وظالمهم، وهذا أيضاً من الواضح أنّه حرام عند الفقهاء.
4 ـ التبرّي من غير المسلم ومن ناصبي العداء لأهل البيت وظالميهم، وهذا هو محلّ البحث، إذاً فيجب التمييز بين تولّي غير المسلم وبين التبرّي منه، خلافاً لما فعله بعضهم حيث استدلّ على وجوب التبرّي (بالمفهوم الخاص) بنصوص تحريم التولي، فالتولّي له مشكل عندهم، ولهذا وردت النصوص القرآنية والحديثية بأنّ المؤمن لا يوادّ ولا يتولّى غير المؤمن، لكنّ الكلام ليس في التولّي، فلو تركنا التولّي، هل يجب التبرّي ـ بمعنى غير ترك التولّي ـ أم أنّ التبرّي منهم هو نفس أن لا تتولاهم وتكون منهم وتنتمي إليهم وتؤيدهم وتساعدهم وتقوّيهم وتنتصر لهم؟ هذا موضوع مهم جدّاً. ما هي النسبة بين التولّي والتبري؟ هل هي نسبة الأمرين: العدمي والوجودي، بمعنى أنّ التبرّي هو مجرّد عدم التولّي، أم النسبة هي الأمرين الوجوديين، بمعنى أنّ ترك التولّي لا يساوق تحقّق التبرّي، بل لابدّ من شيء وجودي إضافي آخر يلزم تحقيقه كي يحصل التبرّي؟
ظاهر بعض الآيات والروايات أنّ المطلوب هو قطع الصلة، وهذا هو المعنى اللغوي للبراءة، فأن تتبرأ من ظالمي آل محمّد عليهم السلام مثلاً معناه أن تقطع صلتك بهم، ولا توادّهم ولا تحبّهم ولا تنصرهم، ولا تؤيّدهم ولا تدعمهم بمختلف أشكال الدعم… إلا أنّ بعض النصوص الأخرى يفهم منها أنّ المطلوب أكثر من ذلك وهو البغض والكراهية، وأنّ هذا هو معنى البغض في الله الذي ورد في النصوص الكثيرة عند المسلمين، فأن تبغضهم من حيث فعلهم ما فعلوا أمرٌ مطلوب زيادةً على قطع الصلة والارتباط بهم، ومن هنا قال كثيرون بضرورة معاداة أعداء آل محمّد وليس فقط عدم موالاتهم.
رابعاً: هذا كلّه في البراءة والموالاة، لكنّ البراءة شيء وإظهار البراءة وإعلانها شيء آخر، فأنت تتبرّى من زيد وتقطع صلتك به وتتخلّص منه وتتباعد عنه، فيصدق البراءة، أو تفعل ذلك مع بغض له من حيث فعله المنكر فيحصل ذلك أي البراءة، لكن ليس من الضروري لصدق البراءة أن تعلن ذلك أمام الناس لزوماً، أو تعبّر عنه بقولٍ أو لسان خاصّ؛ لأنّ التولّي والتبرّي هما في الأصل من أفعال القلوب إذا فسّرناهما بالحبّ والبغض، ولهذا لا يقول أحد بضرورة أن نعلن بغضنا ـ بناءً على تفسير البراءة بالبغض ـ كلّ يوم لنمرود وفرعون وهامان وقارون وغيرهم من القائمة الطويلة كلّ واحدٍ بالتفصيل وباسمه، فالأمّة لا تعيش البراءة من هؤلاء بمعنى الإبراز، بل تعيشها بمعنى البغض المستكنّ الكامن في النفس على ما فعلوا، أو فقل البغض الإجمالي مقابل البغض التفصيلي، أو البغض العنواني مقابل البغض الشخصي. ولم يقل أحدٌ من الفقهاء بحرمة عدم إبراز البغض هذا عليهم، كيف، وأعداء رسول الله من قريش وأمثالهم نحن ننساهم في كثير من الأحيان ولا نلتفت لإعلان البراءة منهم وإبرازها، وهم مصداق بارز ـ كأبي لهب وأبي جهل وأمثالهم ـ لناصبي العداء لشخص الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلّم، ولا يقول فقيهٌ بحرمة فعلنا هذا وعدم إبرازنا. نعم لو لم تتحقّق البراءة إلا بإعلانها أو بظهور آثارها لزمت، لكن لا من باب وجوب الإعلان والإبراز، بل من باب البراءة نفسها.
خامساً: لو قلنا بأنّ البراءة قد أخذ في تعريفها الإعلان والإبراز، أو قلنا بوجوب إعلانها وإبرازها ولو لم يؤخذ ذلك في تعريفها، إلا أنّ الإبراز يمكن أن يتمّ بكلّ الطرق، فلا حصر له بطريقة واحدة، فأن أبرز معاداتي لظالمي آل محمّد أو للمشركين لا ينحصر بهذه الطريقة أو تلك، بل يمكن لشخص أن يبرز معاداته عبر أسلوب فضحهم، وآخر عبر لعنهم، وثالث عبر التحريض عليهم، ورابع عبر إماتة مذهبهم ومحاربة أصول تفكيرهم وهكذا، فكلّ هذا إذا انطلق من داعي التبرّي منهم وبغضهم صدق عليه عنوان البراءة منهم حينئذٍ. نعم إذا دلّ الدليل على استحباب أو وجوب استخدام أسلوب خاصّ في إبراز البراءة منهم كاللعن أو التجريح أو الإهانة أو الهجو أو نحو ذلك، كان الكلام في الدليل، فإذا صحّ أخذ به واعتبرناه أسلوباً عيّنته الشريعة لنا في كيفية إبداء براءتنا من الكافرين أو الظالمين، وإلا فإنّ أسلوبنا في البراءة أمرٌ نسبي يختلف من شخص لآخر، ولا يحقّ لشخص أن يلزم الآخرين بأسلوب خاصّ، وإنّما المطلوب فيه هو إبراز القطيعة معهم ومحاربتهم ومواجهتهم والبغض لهم. لكنّ كلامنا الآن في ربط الموضوع بأصل التبرّي والتولّي، فليلاحظ جيداً حتى لا تختلط الأمور علينا كما هي العادة مع الأسف. هذا وفي موقف الإمام الخميني من إعلان البراءة من المشركين كلامٌ طويل، من حيث كون ذلك فتوى أم حكماً ولائيّاً، وإن كان الأرجح بنظري أنّه عنده حكم ولائي له أصول تشريعيّة.
سادساً: عندما يرتكب شخص ظلماً ما أو معصيةً أو أيّ شيء من هذا القبيل، وفي الوقت نفسه يقوم بأفعال حسنة، كظالمٍ طاغية فعل المنكرات لكنّه فعل الكثير من الخيرات والحسنات، ففي هذه الحال هو من جهة كونه فاعل خيرٍ محبوب لنا في الله، ومن جهة كونه فاعل شرّ مبغوض لنا في الله، بناء على تفسير البراءة بالبغض، فهنا هل نحبّه في الله أم نبغضه في الله؟ وهل عناصر الشرّ التي فيه تلغي إمكانية حبّه في الله وذكر حسناته وتعريف الناس بخيراته، أم إنّها لا تلغي ذلك؟ ذهب بعض الفقهاء المسلمين إلى أنّها لا تلغي، فيما يذهب آخرون إلى الإلغاء، وأنّه لو لم تلغ لكان معنى ذلك أن نحبّه ونبغضه معاً!! وهذا أمر متناقض.
ويقود هذا البحث إلى سؤال بالغ الأهميّة وهو: عندما يرتكب شخص ظلماً، فهل المطلوب منّا أن نبغضه، أي نحقّق بغض الفاعل مستقلاً، أم المطلوب مستقلاً بغض الفعل، ويكون بغض الفاعل بانتسابه إلى بغض الفعل؟ ما هي قيمة هذا السؤال؟
إنّ قيمة هذا السؤال هي أنّ الحب والبغض إنّما يكون بملاحظة الفعل، فمن حيث كونه مسلماً أنا أحبّه، ومن حيث كونه عاصياً أنا أكرهه، وفي الحقيقة أنا أحبّ الإسلام وأكره المعصية، فلا يوجد مانع من اجتماعهما حينئذٍ؛ لأنّ المحبوب والمبغوض أولاً وبالذات عنوانان مستقلان، أمّا إذا قلنا بأن الإسلام سببُ الحب لا موضوعَه، والمعصية كذلك، صار معنى ذلك أنّ المحبوب والمبغوض هو شخص الفاعل، وسبب حبّه وبغضه هو إسلامه ومعصيته، ومن غير المتعقّل أن نحبّه ونبغضه معاً. وهذا يعني أنّه عندما أطالب ببغض المشركين فأنا في الحقيقة أطالب ببغض عنصر الشرك الذي فيهم، فأبغض شركهم، وأبغضهم من ناحية شركهم، لا أنّني أبغضهم مطلقاً، أو أكرههم مطلقاً؛ لأنّهم أشركوا، وبهذا يمكنني أن أحبّ الكافر لإنسانيّته وفعله الخير، وأكرهه لشركه وظلمه مثلاً، فعندما تأمر النصوص ببغض المشركين أو الظالمين فهي تأمر ببغض هذا الجانب من شخصيّتهم، لا أنّها تأمر بسلب كلّ أنواع التواصل والمودّة والمحبّة والتقدير بينك وبينهم حتى في الأمور التي تكون عند الشريعة خيراً وتصدر منهم بالفعل، بحيث لا يجوز لي أن أحبّهم في فعلهم هذا. ولهذا جاء في عهد الإمام علي لمالك الأشتر النصّ التالي: (..وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق)، فالمطلوب هو الرحمة بالرعية والمحبّة لهم، فإنهم إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، فنظير الخلق الذي هو ليس بأخ لك في الدين يمكن أن يكون محبوباً من قبل الوالي.
الذي يبدو لي صحيحاً هو أنّ الحبّ لا يكون مطلقاً والبغض كذلك، وبهذا يمكن اجتماعهما معاً بلحاظين ومناسبتين، بلا أيّ مانع أو محذور، فيمكن ـ إلا إذا دلّ دليل خاصّ على حالة خاصّة ـ أن أبغض ظالماً، وفي الوقت نفسه أبيّن محاسنه، تماماً كما فعل القرآن الكريم حينما بيّن محاسن بعض النصارى في ائتمانه على قنطار أو دينار. وتماماً كما ورد في النصوص التي تبيّن بعض محاسن هذا الكافر أو ذاك من الخُلق السليم والكرم أو غير ذلك رغم شركه.
سابعاً: لو غضضنا الطرف تماماً عن كلّ ما تقدّم، يجب أيضاً التمييز بين البراءة من ظالمي آل محمّد والبراءة ممّن آمن بالله ورسوله، ولم يفهم ما حصل في القرون الأولى على أنّه ظلمٌ لآل محمّد، بل اعتبره اجتهاداً أو لم يثبت عنده وجود ظلم أساساً، كما هي حال غالبيّة المسلمين اليوم من أهل السنّة في الحدّ الأدنى، فالبراءة من ظالمي آل محمّد لا تساوي البراءة من أهل السنّة اليوم، حتى يدعو البعض إليها مؤخراً كما سمعنا، ويطالب بأسبوع البراءة مقابل أسبوع الوحدة الإسلاميّة؛ فإنّه إذا لم يحتمل الاجتهاد أو الغفلة أو الجهل في حقّ الأوّلين، فإنّه محتملٌ في حقّ كثير من اللاحقين، فلا ينبغي أيضاً أن نخلط المفاهيم ببعضها، ونذهب إلى أنّ الدعوة للتقارب بين المسلمين اليوم أو للوحدة الإسلاميّة، ينافي مفهوم البراءة من الكفر أو الظلم أو الغصب.
أعتقد أنّ هذه النقاط التي أشرنا إليها تميّز مجموعة من المفاهيم عن بعضها بعضاً، وهذا ما يدفع لضرورة البحث الاجتهادي في هذه المسألة من جوانبها، وكما قلت بأنّه مع الأسف لم تبحث هذه المسائل بطريقة علميّة اجتهاديّة في مصنّفات الفقهاء، بل غلب عليها طابع التناول العامّ، إلا متناثراً من الكلمات هنا وهناك. وتحرير المفاهيم وتمييزها وتحديد جهات البحث هو المقصود من كلامي هنا، أمّا تحقيق النصوص ومتابعتها فيحتاج لدراسة مطوّلة نوكلها إلى مناسبة أخرى لضيق المجال الآن.