السؤال: يُلاحظ أنّكم لا تقولون بوثاقة النوفلي، مع أنّ له مئات الروايات في الكتب الحديثية، فما هو دليلكم على ذلك؟ وإلى ماذا تستندون في مخالفتكم لما اتفق عليه العلماء في وثاقته والأخذ بروايته؟ (سليم).
الجواب: ليس صحيحاً أنّ العلماء اتفقوا على وثاقة النوفلي، فقد توقّف في أمره كثيرون، مثل العلامة الحلي (تذكرة الفقهاء 10: 225)، والشهيد الأوّل (انظر ـ على سبيل المثال ـ: غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 4: 381)، والمحقّق الأردبيلي (مجمع الفائدة والبرهان 2: 464، و8: 245)، والعلامة الخواجوئي (جامع الشتات: 188)، والسيد محسن الحكيم (مستمسك العروة الوثقى 12: 424)، والسيد محمّد باقر الصدر (بحوث في شرح العروة 3: 15)، والشيخ أبو طالب تجليل (التعليقة الاستدلالية: 388)، والسيد كاظم الحائري (القضاء في الفقه الإسلامي: 305، 373)، والسيد محمود الهاشمي، في كتبه المتأخّرة (انظر: قراءات فقهيّة معاصرة 1: 442)، والشيخ محمّد إسحاق الفياض (تعاليق مبسوطة 2: 305، و3: 461)، والسيد علي السيستاني (قاعدة لا ضرر: 322، 323)، والسيد الخوئي في رأيه القديم الذي كان يذهب فيه إلى عدم وثاقة النوفلي، والسيد محمّد رضا السيستاني (على ما جاء في تقريرات بحوثه المتداولة في الحجّ 3: 39)، ويلوح أيضاً من الشيخ ناصر مكارم الشيرازي بعض التحفّظ في أمر السكوني والنوفلي (أنوار الفقاهة، كتاب البيع: 214، 465) وغيرهم من العلماء.
ولكي نتكلّم باختصار شديد حول النوفلي، يمكن أن ننقل أولاً بعض كلمات الرجاليين: قال النجاشيّ: (الحسين بن يزيد بن محمّد بن عبد الملك النوفليّ، نوفل النخع، مولاهم، كوفيّ، أبو عبد الله، كان شاعراً أديباً، وسكن الريّ ومات بها، وقال قومٌ من القمّيّين: إنّه غلا في آخر عمره، والله أعلم، وما رأينا له رواية تدلّ على هذا. له كتاب التقية. أخبرنا ابن شاذان، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميريّ، قال: حدّثنا إبراهيم بن هاشم، عن الحسين بن يزيد النوفليّ، به. وله كتاب السنّة) (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة: 38). وقال الطوسيّ: (الحسين بن يزيد النوفليّ، له كتاب، أخبرنا به عدّة من أصحابنا، عن أبي المفضّل، عن ابن بطّة، عن أحمد بن أبي عبد الله، عنه) (الفهرست: 114). وقال العلامة الحلّيّ: (وأمّا عندي في روايته توقُّفٌ؛ لمجرّد ما نقله عن القمّيّين، وعدم الظفر بتعديل الأصحاب له) (خلاصة الأقوال: 339). وقال ابن داوود الحلّي: (الحسين بن يزيد المتطبِّب النوفليّ روى عن السكونيّ، مهمَلٌ) (الرجال: 82) و..
ويظهر أنّ للنوفلي في الكتب الأربعة فقط أكثر من 850 رواية.. ويُشابه وضعه في مصادر الحديث الإمامي وضع إبراهيم بن هاشم من بعض النواحي، أي من حيث عدم وجود توثيق صريح ومباشر له من جهة، ووجود روايات كثيرة له في كتب الحديث من جهة ثانية، من هنا انبرى جمع لمحاولة توثيقه، من خلال عدّة وسائل، أهمّها:
أ ـ إنّه رجل كثير الرواية، وكثرة الرواية دليل الوثاقة، كما قال بعض علماء الجرح والتعديل.
ويناقش هذا الكلام ببطلان هذا الأساس من رأس؛ إذ مجرد أن يكون الراوي كثير الرواية لا يعني ذلك ـ لا منطقياً ولا شرعياً ـ أن يكون ثقةً؛ ألا يكثر الكذابون من الكذب؟ بل هناك عيّنات واقعيّة لرواة كانوا مكثرين في الرواية، ومع ذلك حكم العديد من علماء الجرح والتعديل المتقدّمين والمتأخّرين بكذبهم وعدم وثاقتهم مثل محمد بن سنان عند بعضهم. ويمكن لكم أن تجروا استقراءً للرواة الذين ضعّفهم الطوسي أو النجاشي ثم ذكرت لهم مئات الروايات في الكتب الحديثيّة بما فيها كتب الطوسي نفسه، وهذا أمر موجود عند السنّة والشيعة.
ب ـ إنّ للسكوني روايات كثيرة جداً روى أكثرها عنه النوفلي، وقد نصّ الشيخ الطوسي في كتاب (العدة في أصول الفقه)، على أنّ الطائفة الشيعيّة قد عملت بروايات السكوني، رغم كونه سنّي المذهب، وهذا معناه أنّ الطائفة قد عملت بالتأكيد بروايات النوفلي؛ لأن أكثر روايات السكوني قد وصلت للطائفة عبر النوفلي، فمن الطبيعي أن يكونوا قد أخذوا بروايات الرجلين معاً، وهذا ما يُثبت توثيق النوفلي.
ويُناقش بأنّ مقصود الشيخ الطوسي أنّ الطائفة لم تكن عندها مشكلة من السكوني رغم الاختلاف المذهبي معه، وهذا ليس معناه الأخذ بكلّ رواياته، وإنما معناه مبدأ الأخذ برواياته إذا وصلتهم بطريق صحيح، فلو أخذوا بعشرة في المائة من رواياته فقد صحّ أنّهم يأخذون برواياته رغم الخلاف المذهبي. وإذا رجعنا إلى تتبّع روايات السكوني وجدنا أنّها ـ كما نصّ السيد الخوئي ـ تزيد عن الألف وخمسين رواية في الكتب الأربعة، وإذا رجعنا إلى النوفلي وجدنا أنّ رواياته عن السكوني تقارب الثمانمائة مورد (انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 24: 171)، وهذا معناه أنّ هناك ما يزيد عن مائتي رواية وصلت إلى كتب الإماميّة عن السكوني عبر طريق لا يمرّ بالنوفلي، أي هناك حوالي خُمس روايات السكوني، فإذا عملت الطائفة الإمامية بهذه الروايات.. صدق أنّها عملت بروايات السكوني، فلا دليل هنا على توثيقهم للنوفلي بمجرّد روايته عن السكوني.
يُضاف إلى ذلك أنّنا أثبتنا بدراسة مفصّلة (كتاب نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي) أنّ قدماء الشيعة كانوا يركّزون على الوثوق بالصدور في الروايات، ولم يكن بحث السند ـ بوصفه المعيار الأوّل أو شبه الحصري ـ حاضراً بقوّة واهتمام عندهم إلا في القرن السابع الهجري فما بعد، وإنما المهم عندهم أن لا يكون الراوي متهماً بالكذب إلى جانب أهمّية صدق المضمون ووجود شواهد ومتابعات له، فلعلّ الشيخ الطوسي قصد أنّ الخلاف المذهبي لم يحل دون عملهم بروايات السكوني من حيث المبدأ، طبقاً لهذا الأساس، وهذا لا يدلّ سوى على أنّ الطائفة لم تجرح النوفلي لا أنّها وثقته.
وكونُه معروفاً في كتب الحديث وتداول رواياته لا يدلّ على توثيقهم له؛ لأنّ وجود رواية للنوفلي الذي لم تثبت إدانته ولم يثبت ضعفه، سوف يساعد على تقوية الأحاديث الأخرى التي تشترك مع هذه الرواية في المضمون، ولهذا تجدهم يروون عن رواة شهدوا هم بضعفهم؛ لأنّ لرواياتهم التي ينقلونها عنهم في بعض الأحيان شواهد ومتابعات، فيعتبرون رواية الشخص الذي لم يضعّف بمثابة القرينة المفيدة التي تكفي للسماح لهم بنقلها والاعتماد عليها، مع ضمّ سائر الروايات أو الشهرات أو الإجماعات أو نصّ الكتاب في الموضوع، وهذا باب مهم لفهم طبيعة تعاطي متقدّمي المحدّثين من الإماميّة (وكثير غيرهم) مع عالم الروايات والرواة، لاسيما وأنّنا لا نعرف كلّ روايات النوفلي، فلعلّهم انتقوا ونقلوا من بينها ما وجدوه سليم المتن، معتضداً بشهرةٍ أو إجماع أو قرآن أو حديث أو اعتبار أو أصول المذهب أو تسامح في أدلّة السنن أو غير ذلك، ومن ثمّ فمجرّد روايتهم عنه وتداول نقلهم لذلك لا يعني بالضرورة أنّهم وثّقوه، فهناك فرق بين تعامل المحدّث مع الرواية وتعامل الرجاليّ معها، فقد يتطابق الأداءان وقد يختلفان، ولهذا تجدهم يذكرون المراسيل والأحاديث الموقوفة والمنقطعة والمعضلة وغيرها، فليلاحظ جيداً، وهذا مفتاح مفيد لفهم العديد من الأمور، وقد أشرنا إليه ولجملة من نماذجه عند المذاهب وفقاً لطرق المحدثين والفقهاء معاً، وذلك في كتابَي: (نظرية السنّة) و (المدخل إلى موسوعة الحديث النبويّ).
ج ـ ما ذكره السيد الخوئي، من ورود اسم النوفلي في كتابي (كامل الزيارات) لابن قولويه القمي، (والتفسير) لعلي بن إبراهيم القمي (معجم رجال الحديث 7: 122، 123)، وقد شهد المؤلّفان اللذان كانا في القرن الثالث الهجري بوثاقة كلّ الرواة الواردين في أسانيد كتابيهما، مما يعني وثاقة النوفلي تلقائيّاً.
والجواب بعدم ثبوت توثيق هذين الرجلين لتمام رواة كتابيهما، فضلاً عن المناقشة في صحّة نسبة كلّ كتاب تفسير القمي اليوم إليه، وبحثه موكول إلى قواعد علم الرجال، وقد أعرض كثيرون اليوم عن نظريّة توثيق كامل رواة تفسير القمي وكامل الزيارات.
أكتفي بهذا القدر؛ لضيق المجال. ويُستنتج مما تقدّم أنّ الحقّ في أمر النوفلي هو التوقّف فيما تفرّد به ولم يعضده ما يفيد اعتبار المجموع من العاضد والمعتضَد، لا لغلوّه في آخر عمره كما نُسب إليه، بل لعدم قيام أيّ دليل يُثبت وثاقته فضلاً عن عدالته، ولم أجد في المصادر السنّية تعرّضاً له، إلا رواية رواها الخطيب البغدادي وقع النوفلي في سندها، ثم علّق عليها البغدادي بأنّ رواتها كلّهم مجهولون، إلا جعفر بن محمد الصادق (انظر: تاريخ بغداد 3: 303)، وهذا ما يعزّز جهالة الرجل أيضاً.